د. محمد رياض حمزة –
dirwa2000@yahoo.com –
ليس من باب التشاؤم ، لكن تمويل موازنات معظم الدول الخليجية ، عدا دبي ، مصدرها عائدات النفط المُصَدّر. ففي أكتوبر 2014 أظهر تحليل لموازنات لدول مجلس التعاون الخليجي أن السيناريو الأكثر سوءا هو انخفاض أسعار النفط دون مستوى 75 دولارا للبرميل.
وقتها بدأ المسؤولون في وزارات المالية الخليجية إعادة النظر في السعر الذي يُعتمد للإنفاق العام في موازنات السنة المالية 2015 . وما كان العديد من الخبراء والمحللين يعتقدون أن انهيار أسعار النفط سيتواصل إلى دون الـ 50 دولارا للبرميل في منتصف يناير 2015. وكان المتفائلون يرون أن قوانين السوق لا تسمح بانهيار الأسعار إلى الحد الذي ينال من أنشطة الاستثمار في صيانة وتجديد الطاقات الإنتاجية للنفط أو التوسع فيها. وكانوا مخطئين إذ تجاهلوا التدابير السياسية ومستجداتها.وعند استقراء الواقع الاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي فإن الآثار التي خلفها انهيار أسعار النفط بين دول المجلس الست كانت متفاوتة بقدر اعتماد كل دولة على عوائد النفط في دخلها القومي، وإن كانت جميعها قد تأثرت بنسب مختلفة إلاّ أنها تتطلع في سد العجز في موازينها لسنة 2015 على مصدرين أحدهما السحب من الاحتياطي النقدي ، والآخر الاقتراض الداخلي بالصكوك أو السندات.
وليس من العسير تمويل عجز الموازنات الخليجية السحب من الاحتياطي ، علما بأن دول المجلس الست لديها احتياطيات مريحة من النقد الأجنبي ، وإن كانت غير معروفة بدقة كم تبلغ سواء أكانت أصولا مادية أم استثمارات في المحافظ السيادية أو ما لدى البنوك المركزية من النقد الأجنبي.
وكان تقرير قد صدر نهاية عام 2013 قدر قيمة الاحتياطيات من النقد الأجنبي لدول المجلس مجتمعة بـ 900 مليار دولار خلال 2013.
وأضاف التقرير: إن احتياطي النقد الأجنبي السعودي كان في حدود 50 مليار دولار عام 2000 ، حينما كان متوسط سعر سلة الأوبك في حدود 22 دولارا للبرميل وما لبث أن تزايد حتى بلغ 680 مليار دولار عام 2011 ، عندما كان مستوى سعر النفط الخام حوالي 106 دولارات للبرميل ، والحال كذلك بالنسبة لسائر دول المجلس الأخرى وإجمالا فقد ازدادت قيمة الاحتياطيات الأجنبية لدول المجلس مجتمعة من حوالي 75 مليار دولار عام 2000 إلى حوالي 800 مليار دولار عام 2011 ، ويتوقع أن تقترب من 900 مليار عام 2013. أما الخيار الآخر لسد العجز في الموازنات الخليجية فيمكن أن يأتي من خلال إصدار صكوك أو سندات حكومية لمدد طويلة والذي يأتي في إطار الدين العام الداخلي.
فالسندات الحكومية تحظى بثقة الجمهور على اعتبار أن الحكومة قادرة على الإيفاء بالتزاماتها المالية. كما أن للدين الداخلي مزايا تحقيق الاستقرار المالي ويساعد على التخفيف من حدة مشكلة نقص السيولة ، خاصة في فترة توقف البنوك عن الإقراض خلال الأزمة العالمية، إلا أن الدين الداخلي للحكومات لا يخلو من المخاطر في حالة تزايد الديون بالقدر الذي يفوق إمكانية بعض الحكومات على سداد تلك الديون زمن استحقاقها.
تؤكد تصريحات المسؤولين عن الشؤون المالية في دول المجلس أنهم يفضلون بدائل أخرى عن السحب من الاحتياطيات النقدية لسد العجز في الموازنات المالية ، إذ إن سحب النقد من الاحتياطي بشكل غير مدروس تترتب عليه نتائج سلبية ؛ لأن الاحتياطي في تلك الحالة لن يصبح قادرا على تغطية الحد الأدنى للواردات السلعية.
كما أكد أكثر من مسؤول خليجي أن الاحتياطيات النقدية بأي شكل تمثل الضمانة لمستقبل البلد ولشعبه، كما أن الاحتفاظ بقدر كبير من احتياطيات النقد الأجنبي له العديد من المزايا أهمها سهولة تبني نظام لأسعار الصرف الثابتة للعملة الوطنية وذلك لسهولة الدفاع عنها، وتجنب التقلبات العنيفة التي يمكن أن تتعرض لها نتيجة تدفق الاحتياطيات للخارج مثلما حدث في الأزمة المالية 2008 و الأزمة الآسيوية في تسعينات القرن الماضي، لكن في المقابل فإن الإفراط في الاحتياطيات له تكاليف أيضا، أهمها ما يسمى تكلفة الفرصة البديلة للاحتفاظ بهذه الاحتياطيات في صورة سائلة بدلا من استخدامها في تمويل الاستهلاك المحلي أو الاستثمار ودفع معدلات النمو.
في أحدث تصريح أدلى به عبد الله البدري الأمين العام لمنظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) قال: « لا أحد يستطيع تقديم تنبؤات دقيقة بشأن مستقبل أسعار النفط في ظل التغيرات السريعة في ظروف السوق وتفاعل المنتجين والمستهلكين معها.
ونقلت صحيفة «الاقتصادية» السعودية في عددها الصادر يوم 5/1/2015 عن البدري قوله :« إن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستحافظ على مكانتها المهمة في سوق النفط العالمية في المستقبل خاصة وأن المنطقة لديها احتياطيات مؤكدة من النفط الخام تقدر بنحو 865 مليار برميل و86 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي ، بما يمثل 58% من احتياطيات العالم النفطية و43% من احتياطيات الغاز»
ونقلت الاقتصادية السعودية عن مختصين في شؤون الطاقة والنفط قولهم : «إن المتعاملين في السوق النفطية لا يزالون يختبرون الوصول إلى قاع سعري للنفط بين 37 و42 دولارا للبرميل. ولم يستبعدوا فرضية أن يواصل سعر برميل النفط الخام تراجعه هذا العام ليصل إلى ما بين 37 و42 دولارا ثم يعود بعدها إلى الارتفاع ليستعيد الأسعار الطبيعية له قرب 100 دولار.
ويمكن القول إن تصريحات البدري أو خبراء النفط تستشرف الأسوأ في أسعار النفط . ومنذ بدء التراجع المتواصل للأسعار في الربع الأخير من 2014 ، ويتواصل ، فإن تقارير المتابعة اليومية تشير إلى أن تخمة الأسواق بالمعروض الفائض من النفط الخام ، فضلا عن ارتفاع المخزون الاستراتيجي النفطي لدى الولايات المتحدة الأمريكية.
وتبدو صورة أسواق النفط مشوشة غير واضحة في توجهاتها المستقبلية ، فبرميل النفط الذي خسر 55% من سعره خلال الربع الأخير من 2014 ، ترك صدمة في أوساط المتعاملين وحيرة بين المحللين الذين يئسوا تماما من محاولة العثور على المستوى المتدني للسوق قبل أن يعاود الصعود ، وإذا كان سبب الهبوط الذي تكرر ذكره هو تخمة المعروض من النفط الخام بواقع أكثر من مليون برميل، فإن ميلا قويا من قبل المستهلكين كالصين واليابان والهند وغيرها شرعت بشراء كميات اكبر من النفط مستغلة هبوط الاسعار وتكوين خزين استراتيجي ، فقد ذكرت وكالة «رويترز» «إن بعضا من أكبر شركات تجارة النفط العالم استأجروا ناقلات عملاقة لتخزين الخام في البحر في ظل تزايد تخمة المعروض النفطي العالمي ، وأن موجة الحجز لفترات طويلة غير معتادة ، وأن التجار يستخدمون الناقلات لتخزين الخام الفائض في البحر لحين تعافي الأسعار في تكرار لرهان تجاري مربح جرى عام 2009 عندما انهارت الأسعار، ثم عادت للصعود بقفزات». كما أن ثورة النفط الصخري الأمريكية التي مازالت تضخ كميات شبه قياسية يحتدم النقاش ، بشأن من المنتجين سيبادر إلى خفض الإنتاج مع تراجع الأسعار إلى مستويات دون التكلفة وتآكل الطلب وتنامي فائض المعروض العالمي.
لم يتحدث أي من المحللين الغربيين ولا المؤسسات الصحفية الغربية عن أسباب مفتعلة لهبوط أسعار النفط ، وواصلوا الحديث عن تخمة المعروض وعن ضعف الطلب. ومع ذلك فإن تدني الأسعار إلى الحد الذي سيلحق الضرر بالشركات الأمريكية والأوروبية الكبرى سوف يكرر ما حدث ثلاث مرات خلال عقدي تسعينات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة وخلال عام 2009 لتأخذ الأسعار بالتصاعد بقفزات .