لورنس سمرز – ترجمة قاسم مكي -
واشنطن بوست -
يعرف مدربو الألعاب الرياضية أنه ليس هنالك ماهو أسوأ للفريق الرياضي من التقهقر والاقتصار على اللعب السلبي خوفا من ارتكاب غلطة. وسواء كان ذلك بسبب الرغبة في الاحتفاظ بوضع التفوق (بالأهداف على الخصم) أو نتيجة لانفلات الأعصاب عقب انتكاسة (في المباراة) فإن الفشل في التقدم (ومهاجمة الخصم) هو دائما، تقريبا، خطأ استراتيجي. وما يصدق على المنافسات الرياضية يصدق تماما على حياة البلدان. ففي حين عدم الاحتراس ليس أبدا شيئا حسنا إلا أن الإفراط في الحذر باسم الاحتراس أو لأن ذلك خيار مريح يمكن أن تكون له نتائج خطيرة. ولايمكن لبلد أبدا أن يكون مالكا لقوة ونفوذ يفوقان حجم طموحه في تشكيل النظام الدولي. إن الإحساس بالقدرية يمكن أن يجعل الأشياء المتوهمة تحدث بالفعل. ذلك حين يتجرأ الخصوم ويتحرك الحلفاء إما لاسترضاء المنافسين أو لضمان أمنهم الخاص بهم. وفي وقت يشهد توترا شديدا في أوروبا مع تجلي نزعة المغامرة الروسية في أوكرانيا وتفشي النزاعات وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط وتصاعد التوترات داخل آسيا وتأكيد الصين لوجودها فإن الخيارات التي تتخذها الولايات المتحدة ستكون لها نتائج بعيدة الأثر. وليس مبالغة القول أن هناك شكوكا أقوى من أي وقت مضى، وعلى مدى عدة عقود سابقة، حول استعدادنا لمساندة حلفائنا ومقاومة العدوان ودعم نظام دولي مستقر. فإن التدخل الفعّال في المناطق الملتهبة ضروري. ولكن التعامل مع الأزمة (بعد وقوعها) ليس بأفضل على الإطلاق من الحيلولة دون وقوعها. ومع تركيز العالم اهتمامه على البؤر الساخنة دوليا، فإن ما جرى إغفاله هو خطورة تنازل الولايات المتحدة عن المسؤولية التي تولتها لمدة 70 عاما (منذ الحرب العالمية الثانية) في دعم اقتصاد دولي أكثر تكاملا وتحكمه القواعد باطراد وتسارع في نموه. إن نجاح هذا المشروع هو الذي يفسر لنا لماذا تصرف التاريخ بتلك الطريقة المختلفة بعد الحرب العالمية الثانية قياسا بفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى؟. كما أن هذا المشروع هو الذي كسب الحرب الباردة بإثباته أن الرأسمالية وليست الشيوعية هي أفضل السبل لتقدم البشر حول العالم. وفي وقت برزت فيه المركانتلية االسلطوية(المذهب التجاري غير الحر) كبديل رئيسي للرأسمالية الديمقراطية، تراود الكونجرس فكرة القضاء على بنك الصادرات والواردات الأمريكي والذي، دون أن يكلف الحكومة شيئا، يُمكِّن المُصدِّرين الأمريكيين من التنافس بندِية وتكافؤ أكثر مع مُصدِّرِي البلدان المنافسة التي تملك كلها آليات مشابهة (للبنك). إننا فقط بالحفاظ على قدرة التصدي لدعم الحكومات الأجنبية (لصادرات بلدانها) يمكننا أن نأمل في الحفاظ على نظام تجارة دولية يضمن المساواة وتجنب ترك المجال للمركنتاليين (التجاريين). إن القضاء على البنك المذكور من دون انتزاع تنازلات من الحكومات الأجنبية سيكون المكافئ الاقتصادي لنزع السلاح من طرف واحد. فلا أحد عاقل يفترض أن العالم قد شهد آخر أزماته المالية الكبرى (التي لن تحدث بعدها أزمة أخرى) أو أننا يمكننا أن نزدهر في عالم واقِعٍ في أزمة. ورغما عن ذلك فإن الولايات المتحدة التي سعت بنجاح لإحداث زيادات كبيرة في موارد صندوق النقد الدولي وإجراء إصلاحات مهمة في حكومته هي الآن البلد الوحيد الذي يعرقل إنفاذ هذه الإجراءات بسبب عدم استعداد الكونجرس لإجازة التشريع اللازم للتصديق عليها. إن الصندوق يُمَكِّننا من أن ننجز في المجال الاقتصادي ما نعجز عن تحقيقه في المجال الأمني. (فهو يتيح لنا) وضع عبء دعم النظام الدولي على أكتاف كل أصحاب المصلحة الدوليين كي يستمر في أداء وظيفته. لقد كانت الاندفاعة الاستراتيجية الرئيسية في السياسة الخارجية الأمريكية خلال الأعوام الخمسة الأخيرة هي سياسة الانعطاف نحو آسيا. وهذه سياسة ملائمة تماما بالنظر إلى التحول الذي حدث في مركز جاذبية الاقتصاد الدولي. ولكن الحقيقة هي أنه لم يحدث تغيير كبير. إن أهم تغيير إيجابي ممكن في الأعوام العديدة القادمة سيكون تحقيق الشراكة عبر المحيط الهادي. ولكن يبدو احتمال إجراء تفاوض حول عقد صفقة ثم تأمين مباركتها من الكونجرس ضعيفا لحد مقلق. ولايوجد دليل بأن هذا الموضوع يبدو ملحا خارج النطاق الضيق للمشتغلين بالتجارة الدولية. ويبدو احتمال التوصل إلى اتفاق تجاري مع أوروبا أبعد منالا من ذلك. ثم هناك جانب المساعدات الاقتصادية. فحين واجهت أمريكا اللاتينية أزمة ديون عميقة في أعوام الثمانينات وحين سقط حائط برلين واحتاجت بلدان أوروبا الوسطى والاتحاد السوفييتي السابق إلى إحداث تحول في اقتصاداتها وحين ضربت الأزمة المالية آسيا في عام 1997 وحين أوقفت أعباء الديون نموَ إفريقيا عند منعطف القرن، صاغت الولايات المتحدة بالتعاون مع حلفائها والمؤسسات المالية الدولية سياسات قوية وإن لم تكن مثالية لاستعادة النمو والأمل. ولاتظهر للعيان اليوم أية جهود بذلك الحجم والكرم فيما يخص الشرق الأوسط وأوكرانيا في وقت يشهد حضورا للصين في معظم إفريقيا وأمريكا اللاتينية يفوق حضور الولايات المتحدة. إن الفشل في الارتباط الفعّال بالقضايا الاقتصادية الدولية إنما هو فشل في إقامة دفاع أمامي قوي عن المصالح الأمريكية. وكوننا لانستطيع أن نفعل كلَ شيء يجب ألا يكون سببا لنا كي لانفعل أيَ شيء. وفي حين أن الانتخابات قد تدور حول انشغالات أمريكية إلا أن حكم التاريخ سيدور حول ما تفعله الولايات المتحدة دوليا. لقد مضت لحظة السلبية.
*الكاتب أستاذ ورئيس سابق لجامعة هارفارد. تولى وزارة الخزانة من 1999 وحتى 2001. وعمل مستشارا اقتصاديا للرئيس أوباما من 2009 وحتى 2010.