رسائل (10): أنا رِئةٌ آليَّةٌ مُسْتَقْبَلِيَّةٌ روسيَّةٌ

عبدالله حبيب –

مسقط، في ؟/؟/1993؟، 1994؟


-1-

عزيزي زاهي، يا أزهى من نقطة على الزاي؛ أيها الصديق الأقرب للقلب من الزرقة للبحر، أو من الموت للشاعر؛ يا بعيداً عن النسيان كبُعْدِ سفن كريستوفر كولومبوس عن أمريكا؛ يا من هو أقرب من هذا، وأبعد من ذاك: أأنت من كان في بال الشيخ محيي الدين بن عربي حين قال: «إنما الغريب من إذا حضر غاب، ومن إذا غاب حضر»؟.

ليست هذه رسالة؛ كلا، إنها رسولة تسترسل في مجوسيَّتها؛ رسولة تتعرى أمام قومها وقوامها، وتخرج لسانها للظرف السيئ، والمكان السيئ، والزمان السيئ؛ رسولة لا يهمها أن نبوءتها محبَطة، وأن كتابها مهجور، وأن هجيرها يخفق في كتابتها، وأن نارها تخفق في إشعالها- كل ذلك لا يهمها؛ يهمها أن تصل، أو أن تموت، أو أن تتناثر بين الوصول والموت، فحسب. لكن ماذا تقول الرسولة للموت إذا ماتت؟. ماذا تقول للوصول إذا وصلتْ؟. ماذا تقول للمسافة إذا تناثرت ممزَّقة بين الوصول والموت؟. سأصارحك إذاً: إنها رسولة بكماء، لا تستطيع أن تقول شيئاً؛ ولذلك فإنها لا تطمح إلى البوح بأكثر من اللاشيء؛ اللاشيء الذي هو شيء الأشياء، والذي هُوَ هِيَ، والتي هِيَ هُوَ، هَواهُ، هُوَّتُهُ، وآهته.

تصوَّر أنه مضى أكثر من أسبوع ثقيل مزدحم بمشاغل بعضها جدير بالاحتفاء، والبعض الآخر جدير بالاختفاء، منذ أن كتبتُ الفقرة أعلاه. وها أنا أعود الليلة، مرهَقاً وصامتاً إلا من ضجيج الحزن، للجلوس أمام هذه الشاشة البيضاء [..] وذلك من أجل ارتكاب المزيد من الحماقات- ذلك الشعور الساحق، بعد كتابة كل كلمة، بأنني في الحقيقة إنما أردت أن أكتب كلمة أخرى؛ أن يقولني شيء آخر أقرب ولو قليلاً لما أريد قوله، لكن في كل مرة ليس هنالك غير الإخفاق المرير والتيقن العارم من استحالة البوح. أليس للكلمات منطقها الخاص؟. يا للسؤال الذي أصبح تقليديَّاً على نحوٍ مفرط الفجاجة!.تأخر مشروع الكتابة إليك كثيراً- أكثر مما يمكن أن يعتذر له الخجل. وبين كل تأجيل مرغَم ورغبة حقيقية تماماً في التواصل ترتدُّ الحراب يائسة إلى حروفها، وتتقهقر الحروف خرساء إلى زمن يقع خارج الزمان، ومكان يتلاشى في غيبوبة اللامكان. هكذا أُسَوِّغُ الفشل وأبرره؛ أتلذذ بهزيمتي؛ أُخلِصُ لصداقاتي القليلة جداً، والمصيرية جداً؛ وأحصِّن لغتي بمزيد من الرايات البيض التي أنفخ فيها من روحي لتخفق عالية بكبرياء الانكسار على جروف الكلام. لكنني الليلة- الليلة تحديداً- أريد شاهداً موثوقاً على هزيمتي كي لا تنساني الفضيحة. ولتكن أنت، أيها العزيز، ذلك الشاهد الأمين.

يتعلق الأمر، في كل حال، بأسلوب حياتي ونمط موتي: يذهب الأول إلى تحدي الأولى وإلغاء ما هي عليه؛ ويطمح الثاني إلى تأسيس الثاني وتحقيقه. هكذا أردت أن أتعامل مع وجودي هنا من أجل محاولة استيعابه، وذلك سعياً لفهمه ونفيه في آن واحد ما وسعني الأمر وما وسعه- ضِدَّان لدودان بصدق المقت المطلق يقهقهان بِتَشَفٍّ حتى تتشقق قشرة الأرض حين يغرز كل منهما خنجره في كبِد الآخر؛ هكذا أنتحرُ في كل مواجهة، وأقوم ممزِّقاً كفني (و«لا أحيا إلا لأن في وسعي الموت متى شئتُ. لولا فكرة الانتحار لقتلتُ نفسي منذ البداية» حسب سيوران). لكنني في مسعاي لمواجهة موات الحياة لا أريد- في الحقيقة، لا أستطيع- أن أموت فيزيقياً، وذلك لسبب بسيط جداً هو أن وجودي الفيزيقي ذاته قد أصبح نوعاً من التجريد، والتخييل، والاستيهام؛ ولذلك فإن الموت الحرفي لن يجدي أبداً، بل ربما كان العكس تماماً هو الصحيح؛ ففيه المزيد من الإقرار بالاغتراب.

عليك، أيها العزيز، أن تتمتع بمخيِّلة خارقة في فنتازيَّتها كي تتقارب مبدئياً مع صيرورة أشيائي، وكي تكتنه طبيعتها ومنطقها، وكي ترى إليَّ حيَّاً رغم كل شيء، وميتاً من أجل كل شيء أو من أجل لا شيء-لا فرق. ربما يكون الأمر أسهل لو وضعتُه بطريقة مختلفة نوعاً ما: فكِّر دوماً أن للدمار وجهاً آخر؛ تصوَّر دوماً أن للبؤس اسماً آخر؛ وأن البشاعة تستطيع دوماً أن تكون بشعة أكثر: الصحراء موطن النبوءة والموت معاً. هكذا كان البدء. هكذا سيكون المنتهى. وأنا منذ عودتي إلى هذي البلاد ارتأيت أنه من أجل الدخول في حوارٍ شرس مع نفسي، ومع العالم، لا بد لي أن أكفَّ عن أن أكونَ أنا؛ أي أن أرحل اختياراً إلى خارج ذاتي (لكن ليس إلى خارج ذاتيَّتي) نحو خَلقٍ ينبثق من أنقاضي – هكذا أمسخُ ذاتي أكثر؛ وأن أجعل الصدر في مواجهة المنجنيق تماماً، تماماً. كان ولا يزال لا بد من أن أتحرر من أعضائي وحواسي وذلك بأن أحوِّل كامل كينونتي إلى تَجَلٍّ جديد لوجودي. هذا التجلي الجديد هو أني قد أصبحتُ رئة آليَّة. سأسرُّ لك: يتعلق الأمر بتضامن وإعجاب نقديين قديمين بالمُسْتَقْبَلِيَّة الروسيَّة (ماياكوفسكي تحديداً الذي كتب في رسالة انتحاره أن «قارب الحب قد ارتطم بالروتين اليومي»، و»أنه لم تعد هناك جدوى من إجراء جردة للآلام المُشتَرَكَة، وأنواع الأسى، وضروب الأذى») وذلك ضمن معطيات قراءتي الشخصية لتجربة المستقبليين الروس في علاقتهم بالآلة ورؤيتهم لها. لا شك أن الآلة قد أصبحت صورة سالبة في عصر يلغي روحيَّة الإنسان. لكن الأمر يتوقف على السياق وطريقة التعاطي وخطاب التعامل؛ ذلك أن ما يعنيني في الأمر هو إقصاء الواقع الموضوعي، في النسق الشخصي، إلى حدود هلاميَّة يكفُّ فيها عن أن يكون مصدر إعاقة. كيف أستطيع أن أقول للعالم: «حسنٌ جداً أيها البائس حد الرثاثة: إنك لا توجَد»؟. يمكن أن أفعل ذلك بإحدى طريقتين: إما أن أموت (حرفيَّاً) فيكفُّ العالم عن أن يوجد، بالنسبة إليَّ على الأقل، حيث لا يهمني هنا ما «يؤكده» سارتر من استمرار وجود العالم بعد زوالي؛ وإما أن أتحول إلى رئة آليَّة مستَقْبَليَّة روسيَّة.

الخيار الثاني، بطريقةٍ ما، تنويع على ما دعا إليه رامبو من زمان: «التدمير المُنَظَّم للحواس» والذي يعني، في سياقي، تخريب الحواس ليس رغبة في «الوصول إلى الحقيقة» و»الرؤيا» كما كان يطمح رامبو؛ بل تخريبها خوفاً من تبلدها وتلوثها بغض النظر عما يمكن أن تقود إليه؛ وتحويل الأنشطة الفكرية والحياتيَّة من ثمَّ إلى ممارسات إنتاجيَّة ميكانيكية ما كانت لتكون لولا أن الحواس قد دُمِّرَت؛ لأن الحواس، ببساطة شديدة، كانت ستكون قد عجزت عن استيعاب العالم فيما لو سمحتُ لها بإبداء الرأي؛ وهكذا فإن الحواس إعاقة يجب أن تزول. وقد زالت إلى حد كبير.

إذًا أنا الآن عبارة عن رئة آليَّة مستقبليَّة روسيَّة، ولا توجد لدي أعضاء أو حواس أخرى؛ أنا رئة تدخِّنُ كثيراً بقصد أن يختنق العالم أو يعترف بإصابته بالسرطان؛ تلهثُ (لأنها تركض ولا تمشي)؛ تتأمل؛ تكتب؛ تترجم؛ تعيش في عزلة كبيرة ورفض مطلق للممارسات والأنشطة الاجتماعية والشُّلَلِيَّة؛ تدخل في نوبات هستيريَّة من القهقهة الفاجرة (لأنها لا تبتسم ولا تضحك؛ فهي إما عابسة تماماً أو مقهقهة بجنون)؛ تدخل في مواجهات علنيَّة؛ تكتسب أعداء جدداً يومياً تقريباً وفي مختلف المواقع؛ ولا تزال علاقتي بـ [..] مفرطة السخافة (وقد نَجَوتُ من الموت بأعجوبة، بالمناسبة، في حادث سيارة مرة واحدة حتى الآن) [..]. هكذا أكابِرُ، وأوجه رصاصة الرحمة إلى رأس المسدس- هكذا أعيش/ أموت.

[..].

لا أخبار أخرى تستحق الحبر والورق.

نسيت أن أسألك: كيف حالك؟، و[..].


–2–

مسقط، في ؟/ ؟/1993؟، 1994؟.

عزيزي زاهي


إذاً مضت كل تلك الشهور منذ أن كتبت لك السطور أعلاه وأنا أنتظر وقتاً ومزاجاً افضل لإكمال الرسالة حتى فوجئت في مكالمتنا الهاتفية الأخيرة باعتزامك العودة إلى فلسطين قريباً. حسن جدا، لم يعد أمامي من خيار سوى إرسال هذا كما هو، مباركاً لك من كل قلبي قرارك الجريء. مبروك [..]. لم يتغير شيء منذ أن كتبت لك ما كتبت، ولن يتغير شيء حين أتواصل معك في المرة القادمة. أعتقد بقوَّة أن تجربة العودة إلى الوطن ستكون مثمرة لكم جميعاً، خاصة وأنها ستكون مفتوحة على «آفاق العودة إلى المنفى» [كما قلتَ في الهاتف]. أي قدر أسطوري هذا أن يكون كل رحيل، كل هجرة، نوعاً من العودة؟.

[..].

محبتي.