محمود شرف –
حاولت جاهدا أن أصحح المعلومات المغلوطة لصديقي الشاعر الكوستارّيكي «كارلوس» حول «ألف ليلة وليلة»، كنا في طريق العودة من «سامورا ميتشواكان» المكسيكية، أو «ثامورا» طبقا للنطق الأسباني للكلمة، الطريقة الأولى لنطقها تنتمي للناطقين بالأسبانية من أبناء أمريكا الجنوبية، أما الثانية فيعتمدها أبناء أسبانيا أنفسهم، كنا في طريق العودة نحو «مكسيكو سيتي» بعد انقضاء الأيام الثلاثة التي استغرقها مهرجان الشعر الدولي الثامن عشر بالمدينة، استقلينا سيارة صديقتنا الشاعرة المكسيكية «بيلار»، وانطلقنا نقطع مسافة الخمسمائة كيلومتر التي تفصل بين المدينتين، أخذنا النقاش حول أشياء كثيرة نحو عالم الأدب، والتأثيرات المختلفة للأدب العربي والثقافة العربية بشكل عام على آداب الشعوب الأخرى، خاصة شعوب أمريكا الجنوبية، كان بديهيا أن يأخذنا الحديث نحو تناول التأثير الواضح لـ«ألف ليلة وليلة» على تيار الواقعية السحرية برمّته، وهو ما أشار إليه رفاق الرحلة، كان معنا شاعرة أخرى من كوستاريكا، «ميلينا»، لكنها كانت نادرة الاشتراك في الحوار لخجلها من الطريقة التي تنطق بها الإنجليزية.صديقي «كارلوس» يشتغل بالتدريس في جامعة بكوستاريكا، وهو مقتنع تمام الاقتناع بأن «ألف ليلة وليلة» هي كتاب فارسي، وليس عربيًّا كما هو معروف، ذكر لي أسانيده، وكان معظمها يرتكز على بعض المقالات غير الموثقة منشورة على مواقع بشبكة الإنترنت، فيما بعد أكملنا حوارنا في غرفتنا المشتركة بالفندق في «مكسيكو سيتي»، ودحضت له تلك الآراء، اعتمادًا على المصدر نفسه الذي استند إليه في تكوين رأيه، ليس بدافع شوفيني، انتصارًا لهويتي، بقدر ما كانت محاولة مني لإثبات وجهة النظر الصحيحة، على الأقل تلك التي أقتنع بها.
قبل هذا الوقت بأكثر من أربعة عشر عاما، وذات نهار قائظ من أيام يوليو، كنت أقف أمام باب فندق «آزادي»، الذي يقع في شمال العاصمة الإيرانية «طهران»، بالقرب من طريق الإمام «يادِجار» السريع، قريبا من سفح جبل «دربند» منتظرا السيارة التي ستقلني إلى قلب المدينة، حيث أردت أن أزور السوق القديم للمدينة، يسمونه سوق طهران الكبير، جنوب العاصمة، أتى السائق، كان إيرانيًّا، لا يجيد الحديث بأي لغة أخرى خلاف الفارسية، أخبره الموظف باستقبال الفندق بوجهتي، وكان قد طلب مني أن أحدد له موعد عودتي ليطلب من السائق أن يحضر إليّ ليقلني مرة أخرى إلى الفندق عندها، أخبرته أنني سأبقى هناك ساعتين تقريبا، في الطريق لم يكن هناك مجال للحوار بيني وبين السائق، فاهتممت بمراقبة الطريق، شوارع نظيفة، ومجار مائية على هيئة قنوات صغيرة بامتداد الطرق، عرفت أنها صُنعت من أجل استيعاب الماء الناتج عن ذوبان الجليد الذي يغطي قمم الجبال المحيطة بطهران أثناء الشتاء، حينما يحل الصيف وترتفع درجة الحرارة بالشكل الذي نعتاده في مصر، أشجار كثيفة تكاد تغطي معظم شوارع المدينة، الضوء في هذا التوقيت من النهار، كنا في منتصفه تقريبا، حاد، يبهر العين، رجال كثيرون في الزي الإيراني المعروف؛ بذلة على الطراز الغربي، تحتها قميص بنصف «ياقة»، ودون ربطة عنق، يمرون، وكتل سوداء متباينة الأحجام، نادرة أيضًا، تمرق بين الحين والآخر؛ معظم النساء هناك يرتدين الزي التقليدي المتمثل في العباءة السوداء؛ «التشادور»، التي تغطي كافة أجزاء الجسد، عدا الوجه، كنّ يسرن بجدية مبالغ فيها، أحسست أنها مصطنعة، ربما كان ذلك اتقاء لتحرش الشرطة بهن. حينما وصلنا إلى السوق
القديم أشرت للسائق بما يعني أنني سألتقيه هنا بعد ساعتين بالضبط في نفس المكان، حاولت أن أضع علامات لنفسي حتى لا أضيع تفاصيل المنطقة التي أنزلني بها، ثم دلفت إلى السوق
من بابه الرئيسي؛ سوق قديم، ذو طراز فريد، شبيه بسوق الحميدية في دمشق، لكنه مغطى بالكامل، تقبع الحوانيت داخله على جانبي طرقه الضيقة، ومنعرجاته الكثيرة، المتداخلة، لا أعرف كيف لا يضل رواده الطريق فيها، دهمتني روائح ثقيلة لبهارات، وعطور، وروائح السجاد الذي شغلت متاجره معظم أرجاء السوق، لم تكن الروائح منفرة، بل بالعكس، كانت أليفة، تتناغم مع طبيعة المكان، أرهقتني فقط محاولاتي شبه اليائسة لصرف سماسرة العملة عن مطاردتي في كل مكان تقريبا داخل السوق، كنت أختبئ منهم داخل بعض الحوانيت متظاهرا بالتقليب في البضائع، حتى ينشغلوا عن وجودي، لكني لم أفلح إلا نادرا في هذا!
بخلاف هؤلاء المتطفلين، يتعامل معك الجميع بود ظاهر، وبألفة وحميمية، بعضهم يتحدث الإنجليزية، أخبرني أحدهم، بعد أن سألته عن الأماكن التي يتعيّن عليها زيارتها في السوق، قائلا: اذهب إلى سوق الخيّام، ويمكن أن تزور أيضا سوق حافظ الشيرازي، ثم عليك بسوق الذهب.
القباب التي تغطي البازار ساحرة، تعيدك لعصور سابقة، توحي باتساع كبير، رغم أن المكان بأزقته الضيقة، المكتظ بالناس، والبضائع، وبصياح البائعين للترويج لها، لا يكاد يكفي للمرور، الألوان كذلك تغمر المشهد، ولا أضيع رغم دهشتي، أشعر أن يدا عارفة تقود خطاي بين تلك الأزقة، أتيت إلى السوق لأعرف الحياة أكثر، المسافر يقتنص التفاصيل عبر هذه الأماكن، التي يظهر فيها البشر الحقيقيون، لا هؤلاء الذين يرتدون السترات الرسمية، ويتحدثون اللغة الرسمية، في القاعات المكيفة بالفنادق، وقاعات الاجتماعات، رغم أن هذا لم يكن متحققا بمقدار كبير في طهران (اصطدمت يدي، بغير قصد، بعباءة رئيس الجمهورية أثناء مروره – وحيدا- في ردهة القاعة التي افتتحوا بها المؤتمر).
القباب تقوم على أقواس كبيرة، والبوابات الخشبية العتيقة تفصل بين الأزقة، كانت مفتوحة بالطبع في هذا الوقت، سألت عن أسعار السجاد، فصدمتني الإجابة؛ كانت قطعة صغيرة لا تغطي أكثر من البقعة التي يحتلها مكتبي تكلف ثروة، قلت سأكتفي بلوحة الملك «قورش» التي اشتريتها من مكان ما هناك في سوق «الخيّام»، وبعض أشرطة الموسيقى الإيرانية، ويكفي أنني شاهدت السجاد، ولمست بعضه أيضا.
بدون «التشادور»، في بهو الفندق، تبدو البنات أجمل كثيرا.
وكانت طهران تراقبني !