نوافـذ: إلى الجارة العزيزة

هدى حمد –

ماذا يعني أن تكون لكِ جارةٌ تتركُ أولادها الخمسة في عطلة منتصف السنة، من الساعة الثامنة صباحا وحتى الساعة الثانية عشرة ظهرا، لأجل درسٍ في الخياطةِ أو في الكمبيوتر أو دورة مكياج أو دورة طبخ؟ تتركُ أولادها الذين تمتدُ أعمارهم بين العاشرة والسنتين بدون شخص بالغ أو عاملة منزل تعتني بهم وقت غيابها، هكذا تتركُ لهم الطعام جاهزا وتمضي.بالتأكيد، ستشعرين وقتها بوخزٍ في قلبكِ وستسألينها: «بأي قلب تفعلين ذلك؟» وستقول لكِ مبتهجة: «استودعتهم الله». لحظتها ستتذكرين أنكِ تقلقين من مجرد خروج أولادكِ إلى حوش البيت بلا رقابة، وستبادرين لتذكيرها: «لم تعد الدنيا آمنة يا جارتي العزيزة»، وستقول: «أفعل ذلك لأحصل على وظيفة تُعينني على مُتطلباتهم».

في مراتٍ سابقة كانت تشبُّ بينكِ وبين هذه الجارة الطيبة، حواراتٌ لا حصر لها، حول الإنجاب المتكرر الذي ينهكُ صحتها، خصوصا وأن يد الزوج فارغة آخر الشهر، وكانت تقول لكِ بثقة عمياء: «زوجي قال: الإنجاب وظيفتي في الحياة»، ثم ستردد في لا مبالاة جملتها الشهيرة: «كل مولود يأتي ومعه رزقه»، لن تختلفي معها كثيرا حول ذلك، ولكنك ستبدئين بمُحاولة أخرى لها علاقة مُباشرة بصوت العقل، عن النفط الذي ينخفض، وعن فرص الوظائف المتقلصة، وعن التعليم والصحة، ستخبرينها أيضا عن العشراتِ من الناس الذين يودعون أموالا في البنكِ تحسبا لتعليم وصحة أفضل لأولادهم. ستجد جارتكِ كلامكِ مُضحكا بعض الشيء ومبالغا فيه.

سيشعركِ بالقرف منظر ابنتها في عامها الثاني تملأ ملابسها وفمها بحباتِ الأرز، ستقول جارتكِ بفخر: «بدأت تعتمد على نفسها في الأكل»، ستتذكرين ابنكِ الذي بلغ الثامنة من عمره ولا زلتِ تساعدينه في الاستحمام، لأنكِ لستِ متأكدة دائما من قدرته على إزالة بقايا الشامبو من خصلاتِ شعره.

وستسقطُ كل نظرياتكِ المتفلسفة، وأبناء الجارة يغرفون طعامهم من المطبخ ويأكلون، وهم لا يتذمرون كثيرا، ولا يطلقون أسئلة من قبيل: « لماذا تطفوا الباطاطا على سطح الصالونة يا ماما، ولماذا يظهرُ البصل في البرياني».

ستسقطُ نظرياتكِ وبنتُ العاشرة تُحمم أخوتها الأصغر منها، وتفرشُ لهم الفراش ليناموا، وتحملُ أطباق الطعام وكأنها امرأة ناضجة ومعجونة بتجارب الحياة، بينما بطن أمها يكبرُ بأخٍ أو أختٍ جديدة.

سيصافحُ أولادها يدكِ بحرارةٍ، وسيسألون عن أخباركِ كأنّ أمرّكِ شأنٌ يعنيهم، وسيجلسون إلى جواركِ بأدب جم، ولن يتجرأوا على فتح هداياكِ التي احضرتها لهم، رغم كل الفضول الذي ينمو في أعينهم.

ستتذكرين لحظتها كل الفضائح التي يصنعها أبناؤكِ في حفلاتِ أعياد ميلادهم، وعراكهم على الهدايا قبل انصراف الضيوف، حيث لا تُفيد لحظتها كل تلميحاتكِ، ولا كل النظريات التي قرأتِها «حول احتواء غضب الأطفال واحراجاتهم للآباء».

أولاد جارتكِ هذه، لم يستعملوا حتى اللحظة جوازات سفرهم خارج الحدود، ولم يتنعموا بالسير في مولات مسقط، ولم يخطر ببالهم إلى الآن أن يتناولوا طعامهم بين ردهات مطعم فاخر، ولم يحلموا بعد بدخول قاعة سينما. كانت حدودهم الأبدية هي المزرعة المُسورة، ودكان يغدو الذهاب إليه يوم عيد، وألعاب فقدت شهيتها مع الوقت.

ها أنتِ تُرددين دائما أنكِ ضد وفرة الإنجاب، ضد إهمال الطفولة، ضد أن يأتي طفل إلى العالم ولم تقرأ أمّه كل النظريات المتعلقة بتربيته وأطوار نموه، (ولا زلتِ ضد كل هذا بالتأكيد)، ولكن ثمة أطفال أسوياء يخرجون أيضا من هذه الصُدف العشوائية، يكبرون على صحن واحد، تتسابقُ فوقه الأيدي الكثيرة لتأخذ نصيبها، يكبرون بدون وعود كبيرة بمستقبل باهر، بدون أرصدة في البنك، يكبرون في بيوت صغيرة، حيث فراشُ هذا يلتصق بذاك، مع انتظار طويل أمام دورة المياه في الصباح الباكر.

يتسعُ الفارق عندما تجدينهم يُقدرون الأشياء الجميلة ويشعرون بقيمتها. يشعرون بقيمة الطعام الجيد والمال والهدايا، فيما يعتبرُ أولادكِ ذلك جزءا روتينيا من الحياة، بل قد يصدمكِ ابنكِ المدلل وهو يتحدث عن «الحياة المملة» وهو يملكُ كلّ شيء تقريبا.

جارتكِ العابرة هذه .. لا زالت تحلم، لم يُنهكها الحمل المتكرر كما تتصورين أنتِ، وأولادها المعجونون بالحياة، سيكبرون من دون أن تستعين أمّهم بنظريات التربية البائسة، سيدلها قلبها تماما إلى حيثُ تصبو.