«كافيه سنترال» متحف الجاز في مدريد يقاوم من أجل تجنب الإغلاق

مدريد «د.ب.أ»: يعتبر مقهى «كافيه سنترال» المرجعية الأساسية لعشاق موسيقى الجاز في العاصمة الإسبانية مدريد، حيث شهد أيام مجد عازف الكلارينيت والساكسفون الشهير راكيتو ديريفيرا، وعازف البيانو الشهير شانو دومينجيز. بالإضافة إلى الموسيقيين المحليين.

استقبل المقهى الشهير منذ ثلاثينيات القرن الماضي والذي بات يعرف بمتحف الجاز، عازفين عالميين مثل البيانست راندي ويستون وجوشوا إيدلمان، وعازفي الساكس بدرو اتورالدي وخورخي برادو، والكونتراباص خابيير كولينا، وعازف البيانو الكتالوني الأشهر تيتي مونتوليو.

لكن هذه الأيام يبدو أن أسطورة متحف الجاز، على وشك الأفول، حيث انتهى بنهاية عام 2014 الماضي عقد المقهى والذي يتم تجديده كل عشرين عاما، كان آخرها عام 1994، ويطالب ملاك العقار حاليا بإيجار جديد تتجاوز قيمته الشهرية الخمسة آلاف يورو، وهو مبلغ لا يستطيع القائمون على المكان تأمينه في الوقت الحالي، نظرا لظروف الأزمة والأوضاع الاقتصادية الصعبة. وينذر هذا الوضع الخطير بإغلاق مكان مصنف ضمن معالم التراث الثقافي بالعاصمة الإسبانية. في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية يؤكد خيراردو بيريز أحد القائمين على الكافيه سنترال أن «هذا المقهى لم يكن في يوم من الأيام مشروعا تجاريا مربحا، وإلا لرأينا فروعا له تنتشر في كل مكان، بالرغم من أننا استقبلنا أشهر عازفي العالم مثل النيويوركي لوو بنيت عام 1993 وعازف الترومبيت آرت فارمر وغيرهم».

«مع استفحال الأزمة الاقتصادية التي تمر بها إسبانيا منذ سنوات، لا نستطيع تحمل زيادة أخرى في الإيجار، أوضاع الناس المالية سيئة هذه الأيام، معدل البطالة بلغ 25%، وأكثر من 55% من الشباب بدون عمل، هذا هو جمهورنا»، يوضح بيريز، مؤكدا أن «هذه هي نوعية جمهورنا، سعر تذكرة الدخول يتراوح بين 10 وعشرين يورو، حسب مكانة وشهرة الفنان الذي يعزف كل ليلة».

بدأ بيريز العمل في المقهى مع أربعة من زملاء دراسته الجامعية عام 1981، دفعهم شغفهم بارتياد المكان أثناء الدراسة، وكانوا يتمنون أن يصير ملكا لهم. في صيف 1982 أعادوا افتتاح المقهى الواقع بميدان أنخل بوسط العاصمة، تفصله بضع خطوات عن ميدان باب الشمس «بويرتا ديل سول» الشهير، وبضعة أمتار عن ميدان سانتا آنا، وهي المنطقة السياحية الأشهر في مدريد.

«يعبر كافيه سنترال عن روح الأماكن التي كنا نعشق ارتيادها، بطابعه التقليدي، حيث يمكن للرواد أن يستمتعوا بالخصوصية في أجواء ذات إضاءة مريحة وبدون الحاجة إلى رفع أصواتهم، وأن يستمتعوا في الوقت نفسه بنغمات موسيقى الجاز التي يعشقونها»، يتذكر بيريز وهو جالس على مقعده الخشبي بجوار النافذة الكبيرة ذات السور الحجري المنخفض والمطلة على الميدان الفسيح. في الوقت نفسه يتحسر على مقاهي الجاز الأخرى التي أغلقت أبوابها بسبب الدكتاتورية التي عاشتها إسبانيا خلال حكم فرانكو (1939-1975).

«كنا على استعداد لأن نفعل أي شيء لنكسب لقمة العيش، لكنا فضلنا أن نفعل ما نحب. عملت طوال كل تلك السنوات كمنسق برامج سهرات المقهى حيث كان الجمهور ينتشر على المقاعد وحول المناضد المتراصة إلى جوار الأعمدة القديمة التي شحب لونها والمعلق عليها مرايا كالحة، تفوح منها رائحة القدم»، يتابع بيريز حديثه المؤثر.

أما بالنسبة للموسيقيين، فكان مقهى كافيه سنترال ولا يزال يمثل فرصة كبير لكي يواصلوا العزف أمام جمهور حي وتفاعلي لمدة أسبوع متواصل من الاثنين للأحد الذي يليه بلا انقطاع، وهكذا قدم المكان خلال العقود الثلاثة الماضية ما يزيد على إحدى عشرة ألف وخمسمئة حفلة.

«يؤكد الموسيقيون أنهم لا يصدقون كل هذا الإنجاز ومن ثم لا يتصورون أن يصل الأمر إلى إغلاق المكان. ولكن هذه هي حقيقة الوضع لأن عالم الموسيقى الحية غير قادر على الصمود وسط هذه الأوضاع، ويزداد الأمر سوءا مع موسيقى الجاز والتي لم تعد تجذب الكثيرين من عشاق الموسيقى في إسبانيا»، يحذر بيريز.

تجدر الإشارة إلى أن كافيه سنترال احتل المركز الثامن بين أهم أندية الجاز الأوروبية، وفقا لاستطلاع نشرته مجلة «واير» البريطانية الشهيرة عام 1991. بعد ذلك بعشر سنوات دخل المقهي المدريدي الشهير ضمن تصنيف «داون بيت» لأهم 100 نادي للجاز في العالم، والأول على مستوى إسبانيا، ليصبح بذلك معلما شهيرا محليا وعالميا وظل محتفظا بهذه المكانة حتى عام 2012.

يذكر أن إدراج كافيه سنترال ضمن خريطة أندية الجاز العالمية يرجع الفضل فيه إلى فريق عازف البيانو الشهير دون بولين وعازف الساكس جورج آدمز الذي قدم اربعة عشر حفلا متتاليا في المكان عام 1988. يقول بيريز «كانت هذه أفضل فرق الجاز في العالم في ذلك الوقت، وكان يصاحبها على الجيتار الكهربائي داني ريشموند وشارليز منجوز» ، مشيرا إلى أن الفريق انفصل بعد رحيل ريشموند بعد وقت قصير من هذه الحفلات.

وشهد عام 1994 موسما ساخنا لكافيه سنترال، زاد من روعته استمرار البيانست الشهير تيتي مونتليو في العزف طوال أربع عشرة ليلة متتالية، وهو ما أنقذ المكان من الإفلاس خاصة مع تزامن هذه الحفلات مع تنظيم بطولة كأس العالم ، وانصراف الجماهير تماما عن الموسيقى بسبب كرة القدم، مشيرا إلى أن الفنان الكريم رفض تقاضي أجره تقديرا للموقف الذي كان المقهى يمر به. توفي مونتليو عام 1997، ولم يعد بمقدور القائمين على المكان الاستعانة به لإنقاذهم من الموقف الراهن، بالرغم من ذلك يشعرون بتفاؤل، آملين في أن ينجحوا في استغلال ثغرة في العقد قد تمنحهم مهلة تصل إلى خمس سنوات، بالإضافة إلى بعض الترميمات التي لم يلتزم بها ملاك العقار طوال مدة العقد المنتهي ويتعين عليهم الوفاء بها، وهو وضع يمكن أن يعزز موقف مديري كافيه سنترال أمام القضاء.

«اخترنا الصمود والمقاومة. لن نرحل بنهاية العقد، بل سننتظر لكي يقول القضاء كلمته في هذا الأمر»، يؤكد بيريز، مشيرا إلى أنه إلى جانب الوضع المأسوي الذي يتعرض له المعلم الثقافي الهام، هناك جانب إنساني يتمثل في وجود أكثر من 30 عاملا بالإضافة إلى الشركاء في الإدارة، ومعظمهم قارب على سن التقاعد، وسيكون من الصعب على أي منهم العثور على وظيفة في هذه المرحلة المتقدمة من العمر»، يقول بيريز.

«لم تكتب شهادة وفاة المكان بعد، من المبكر جدا الحديث عن إقامة سرادق عزاء للكافيه سنترال، سنواصل برامجنا وسنفتح أبوابنا حتى بعد انتهاء العقد، لأن هذا المكان لديه تاريخ عريق لن يتكرر»، يؤكد بيريز بإصرار على عزمه على بذل كل ما بوسعه لكي تستمر موسيقى الجاز في التدفق بين جنبات المقهى الشهير.