كان ديوان العرب هو الشعر، فهل صارت الرواية هي الديوان؟!

سردياتنا العربية –

تحسين يقين –

كان الشعر صاحب السيادة 15 قرنا حتى بدأت تنازعه السيادة أجناس أخرى، كالرواية والقصة، ثم إذا ما تم لهما ذلك، إذا بالسينما تخطو بثقة للتنافس. ولا ندري ما الذي سيصار إلى إبداعه ليدخل المنافسة، لكننا ندري أن هذه الأجناس الأدبية والفنية ظلت تعيش أو تتعايش معا. لقد ظل الشعر بدليل استمرار شهرة بعض الشعراء، كذلك أنواع الأدب والفنون، ذلك هو ديدن الحياة، التي لا تتوقف، فتولد دوما أشكالا جديدة للتعبير، بل إن مضامين جديدة تدخل حياة البشر، تأتي بأشكال التعبير معها.

هل الرواية سيدة الأجناس الأدبية؟

كان هذا هو العنوان الذي انطلقت منه فعاليات ملتقى الحادي عشر للسرد في العاشر من سبتمبر في قصر الثقافة بالشارقة، الذي تنظمه دائرة الثقافة والإعلام فيها.

العنوان عام وخاص، فهو عنوان الملتقى، وهو المحور الأول فيها، كأنّ مقترحيه لأهميته جعلوه مبحثا ثقافيا عاما للنقاش، بحيث تندرج تحته باقي المحاور، وفي الوقت نفسه، تم تخصيص وقت كاف لبحث السؤال الأدبي الخاص بالأجناس الأدبية. إنه التعبير عنا أفرادا وجماعات وشعوبا وأمة، والحاجة للتعبير، والبحث المستدام عن افضل سبل التعبير للوصول للمتلقي- قارئا ومستمعا ومشاهدا.

أي إنه السؤال الوجودي عن الكينونة، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وبقدر أهمية هذا السؤال، تأتي أهمية البحث في الأدب بأجناسه وقضاياه؛ فلا يمكن الفصل من حيث الأهمية بين المضمون التعبيري وشكله. وكل مضمون فكري شعوري يستدعي شكله-جنسه الأدبي وأساليب التعبير داخل هذا الشكل-الجنس.

المضمون يخلق شكله ولغته، لذلك تتجه طيور التعبير نحو أشجارها لتبني أعشاشها الخاصة، فكل طير ونسيج عشّه. الفكر والشعور قائدان عظيمان يستجليان دوما أية شجرة ستحط الطيور عليها، وأي خامة ستصنع الأعشاش، إن كانت كلمة أو خطا ولونا، أو نغما، أو صورة.

هل الرواية سيدة الأجناس الأدبية؟

هذا السؤال دفعني منذ سنوات للبحث في الأجناس الأدبية ككاتب يمارس الكتابة الإبداعية، ويمارس كتابة النقد الأدبي والفني.

فكيف ننظر أصلا للشكل الروائي في سياق الإنتاج الأدبي بل والفني-السينما والمسرح؟

كيف يصير الكاتب روائيا؟ ولماذا؟ وما اشتراطات ذلك بما يضمن الاستمرار؟

يبدأ الإنسان بالشعور، وهناك من بين البشر من يملكون شعورا خاصا، فيجدون قلقا إن لم يفرغوا هذا الشعور حديثا أو كتابة أو رسما أو حركة ولعبا. وما دمنا في عالم الأدب، فإننا نركز على الكلام الشفويّ والمكتوب.

ومن الطبيعي تأثر الطفل-الفتى، بالوسط اللغوي، وما فيه من سيادة لشكل ما من اللغة الأدبية، كالشعر والخطابة في حالتنا العربية؛ لذلك فإن بدايات الكتاب والأدباء العرب تأثرت بالشعر والخطابة، فكتب الكثيرون/ات الشعر، محاكاة للشعر المسموع والمقروء، وكتبوا ما يشبه الخطبة التقليدية، لعلاقتها بالمشاعر. كما انتشر لدى الهواة والكتاب في بداياتهم الشعر المنثور، أو لعله النثر الشعري، احتراما منهم لشكل الشعر كشكل سيادي ورسمي. وخلال عملية تجريب الكتابة، والتثقيف، والتعرف إلى هوياتهم الحقيقية في النظرة للأدب والفن، ولأجناس الأدب، كالشعر، والمذاهب الأدبية، فقد دخلوا في تحولات أدبية عميقة.

في البدء كان الشعور، ثم مع الخبرة والممارسة دخل العقل والوعي، ومعها دخلت وجهات النظر المختلفة، المتأثرة بالزمان والمكان، وما ينبض فيه من مشاعر وثقافات.

يمارس المبدع الموهوب شكل الحكاية، التي تتطور إلى القص والرواية، استجابة لشعور محبة الحكواتي أو محاكاته، أو حبا للتشوق رواية واستماعا، ثم بالاستمرار بذلك، والبدء بتجريب القص-والحكاية كتابة، يدخل الوعي مع هذا الشعور، أي تدخل وجهات النظر الفكرية والوجودية.

ثم يدخل الراوي في الاشتباك مع الأسئلة ومنها سؤال مسؤولية الالتزام تجاه البشر. وتتطور المسؤولية من المسؤولية الذاتية فالاجتماعية والوطنية، فالقومية إن وجدت، ثم الإنسانية الرحبة، في آخر تجليات الارتقاء الإنساني، بمعنى الالتزام تجاه الإنسانية. والإنسانية هنا ليست العالمية، بل هي كل ما له علاقة بالإنسانية داخل أي وسط اجتماعي يروي عنه الراوي/ة، أي ينظر للمواطن – الشخص نظرة إنسانية، قبل تحديد عناصر الهويات الأخرى، التي تنمّط وتحدد.

خلال ذلك، تتقاطع الذاتية والموضوعية، فلا تناقض بينهما كما رأت النظرة التقليدية من قبل، بحيث تحرّك المؤثرات الشخصية والعامة الحكاية، سعيا وراء مضمون ورسالة النص، الذي يكون في ظل هذا النضج الاحترافي، قادرا على اختيار الشكل: لغة وأسلوبا وتقنيات روائية.

وما مضى له علاقة بمضامين وأسئلة فلسفة الأدب والجمال، لعلنا نتعرّف عليها أكثر حين نبحث في الأدب كأدب والفن كفن.

فكيف نقرأ المحاور الخمسة لملتقى الشارقة الحادي عشر للسرد العربي الذي عقد بالشارقة؟

أولا: هل الرواية سيدة الأجناس الأدبية؟

ربما لم تعد كذلك تماما في ظل انتشار الدراما المرئية، التي تحظى بعشرات ملايين المشاهدين، لذلك من المجدي إثارة التساؤل حول الوجود والدور والأثر، وسيكون لها الأهمية التي تليق بها، إن نظرنا إلى أنها تشكل مادة الدراما العربية بل والعالمية. بمعنى أن الرواية المتميزة ترتقي بالدراما، ومن خلالها توصل رسائل إنسانية بسرعة وفعالية، ومن هنا يصبح تجويد الرواية أمرا ثقافيا وفنيا وليس أدبيا فقط. كما أن وعي الراوي على أشكال القص والرواية، ووضع علاقة العربي مع الأجناس الأدبية في الاعتبار، يطوّر أسلوب الكتابة والعناية باللغة الساردة، بعيدا عن التقريرية واللغة الجافة، قريبا من اللغة الجميلة المكثفة والصادقة، بعيدا عن التكرار والمحاكاة. وربما هنا مجال لطرح أسئلة عن قصص وروايات الأفلام ومسلسلات الميلودراما. ولعل الشعر والخطابة يحضران هنا كلغة وأسلوب، يكونان من أسباب نجاح الرواية كون العربي ما زال تحت تأثيرهما إيجابا وسلبا.

ثانيا: الرواية العربية والمرجعيات الثقافية: وإن كنت هنا لا أدري بالضبط ما المقصود بالمرجعيات الثقافية، لكن مصطلح المرجعيات بحد ذاته، يقود إلى الاتجاهات الموضوعية تجاه مضامين الرواية، والمسافة التي تفصل وتصل ما بين فكر الراوي وفكر المجتمع تجاه النص. وهذه أيضا تعيدنا إلى تطور فكر وشعور الراوي، ونظرته تجاه الذات والمجتمع والعالم. وهي لا تكون ثابتة، بل متحركة، لذلك فإن رصدها يأتي عبر تحليل التاريخ الأدبي للراوي. وتكون النتيجة محفّزة للرواة الجدد لاختيار الأرض التي يقفون عليها، واختيار المنطلقات، وربما وهو المهم مراعاة الذاتية والموضوعية، حتى لا يتقوقع الكاتب ذاتيا من ناحية، وحتى لا يسطو عليه المجتمع أيضا من ناحية أخرى. بمعنى أن فهم المرجعيات تحفّز الإبداع خصوصا في اختيار الصوت الخاص والبعد عن التكرار، أو اختيار شكل الكتابة كرد فعل أو الثأر من أحد، على طريقة المدح والذم التي سادت طويلا في الشعر العربي.

ثالثا: استجابة الرواية جمالياً لمتغيرات الواقع: لقد فهمتها فهما تقنيا وأسلوبيا، بمعنى أنه هناك علاقة للشكل الفني بما فيه من تفاصيل مع شكل الحياة المعاصرة ، انسجاما أصيلا مع ارتباط مضمون الرواية مع العصر.

رابعا: الترابط النصي والخطاب الروائي: ليس بعيدا عن التأثر والتأثير بالتراث، خصوصا أننا نخلع ما يشبه القداسة على النص واللغة بل والجنس الأدبي. فيصبح السؤال هو كيف نحرر الراوي والرواية مما يعلق بنا، لإبداع نص جديد لغة وأسلوبا، فلا نكرر أنفسنا وشعورنا وفكرنا المسبق؟ أي أن دراسة تاريخ الأدب شيء، وتقليده شيء آخر، باتجاه احترام النص الجديد المعبر عن شعور وفكر مميزين. أي انتصارا للإنسان والإبداع معا.

خامسا: محور بنية الزمن بين إشكالياته وتحولاته: يقودني المحور الخامس إلى الرواية التاريخية، أو رواية الآن تأثرا وسردا لزمن مضى، وتلك إشكالية نفسية واجتماعية تشكل تحديا للروائي، خصوصا في الرواية عن مجتمع يمرّ في تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية، حيث يجد الروائي صعوبة في ضبط المسافة بينه وبين النص، كونه يعيش هذه التحولات، أو هو جزء منها، أو هو محرّكا لها.

ولا شك أن مداخلات الروائيين العرب والروائيات، وشهاداتهم/ن قد أثرت هذا النقاش بشكل مميز، كونهم/ن هم صناع وصانعات النصوص الروائية التي تتجلى فيها محاور الملتقى الحادي عشر، وما سبقه من ملتقيات، وما سيأتي أيضا.

وأخيرا فإن هذا الملتقى الذي تشرف عليه دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، يشكل محركا للإبداع الروائي العربي، للاستفادة من المنجز العربي في الرواية، باتجاه الارتقاء بها، ودعم الاتجاهات الإنسانية في الأدب، لأنها من شروط الإبداع. لذلك فإن توصيات اللقاء العربي هي ثمرة هذا النقاش الجاد والمعمّق في الرواية شكلا ومضمونا.