نوافـذ.. العودة إلى حصص التعبير!

محمد الحضرمي -

Fuyodh2@yahoo.com -

الكتابة دائما فعل بوح للأسرار، ولما يختلج في الوجدان، حتى أصبحت إحدى مميزات من يشتغل بها، ولأن الكتابة موهبة كما يقال عنها، إلا أنها يمكن أن تصبح فنا لمن يتدرَّب عليها، وحرفة لمن يجيد سبك جملها، وثمة كتاب محترفون لم يدخلوا في حياتهم دورة واحدة من دورات فن الكتابة الصحفية أو الأدبية، ورغم ما يعرفون به من جزالة وقدرة على تطويع اللغة، إلا أن المشكلة ستبقى قائمة لهم وكل مشتغل بالكتابة، ما لم يتعرَّف الكاتب على أدواته، والتي بها تصبح كتابته قوية وقويمة ومتماسكة، لذلك ما ينقصنا نحن الكتاب – من غير استعلاء للذات لا سمح الله – وجود محترف للكتابة، يعلمنا أبجدياتها الأولى وحتى تصبح فنا، ولعل البعض لا يرى فيما أطرحه ضرورة، والحق أنها ضرورة ملحّة، إن أراد الكاتب أن يقدم كتابة متماسكة، ليس بها أخطاء لغوية أو نحوية أو صياغية، فكثير من الكتاب يفوتهم فهم توظيف معاني الحروف، واختيار التركيبة السليمة للجملة، ووضع علامات الترقيم والاعراب في محلها، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة تسلسل الفكرة، وتناسق الجمل مع سابقتها ولاحقتها.


ولعل في هذا الكلام شيء من المدرسيَّة، ولربما يأتي كاتب فيقول: هل تريدنا أن نعيد حصص التعبير والإنشاء، التي كنا نتعلمها في صفوف المدرسة، لنكتب من خلالها رواية؟، وأقول له: لا يمنع ذلك، إن كان في لغتنا ركاكة بسبب فقرنا اللغوي، لا بأس أن نتعلم قليلا من النحو، والصرف، والبلاغة، وما يعرف بعلوم الآلة، فكل كتَّاب العربية الكبار بدأوا حياتهم بتعليم هذه العلوم حتى تمكنوا منها، أما نحن فجافيناها، ولم نعد نكترث بها، ولا بمدلولاتها، وأصبحت لغتنا مشبعة بالعجمة، وحين هجرنا قراءة القواميس، ولم نكترث بكتب البلاغة والمجاز، وتركنا قراءة الأدب القديم، أصبحت لغتنا نسخة مما ينشر في الصُّحف والجرائد، وهي لغة بلا شك فقيرة أدبيا، ومفرداتها لا تتجاوز المئات من الكلمات، فيما القواميس والمعاجم مشبعة باللغة التي لم تعد مستخدمة اليوم، باعتبارها كتبا تراثية ولغة تنتمي إلى الماضي البعيد، فتواضعت كتاباتنا الأدبية بتواضع ثقافتنا اللغوية.

لقد برقت في ذهني هذه المقالة، في اللحظة التي كنت فيها أقلب بعض الاصدارات الروائية، فوجدت أن اللغة فيها واحدة وموحَّدة، وكأن كل الكتاب تخرَّجوا من فصل دراسي واحد، ونحن اليوم ننتقل بقراءاتنا من كتاب إلى آخر، فلا نجد فرقا بين ما قرأنا وما نقرأ، بل بين ما قرأناه قبل سنين، وما نقرأه اليوم، كلها لغة متشابهة ومتناسخة، وليس فيها ما يدهش، ويثري ويشبع ذائقة القارئ، الباحث عن مفردات جديدة، ناهيكم عن الأخطاء الصياغية التي لا تسلم منها الاصدارات الحديثة، أخطاء نحوية ولغوية مخجلة، يقع فيها كتاب كبار، هم اليوم في مصاف النجوم، وأكثر شهرة من آباء العربية، وأخطاء في وضع علامات الترقيم في غير محلها، وبهذا أصبحت الكتابات متواضعة، وليس فيها ثراء ولا عمق، ووصلت إلى حد أن لغة بعض الكتاب تشبه لغة الكتب المترجمة، الخالية من الروح، النابعة من وجدان الكاتب، والترجمة هي الأخرى صارت تجارة ولم تعد فنا إلا في القليل مما نقرأ.

أنا شخصيا أتمنى أن ألتحق بدورة تعلمني فن كتابة المقالة، وأجدني في حاجة للعودة من جديد إلى ألف باء الكتابة الأولى، وقراءة الكتب التي تعلمني النحو والصرف والبلاغة، وقراءة قواميس اللغة التي هجرتها، والكُتَّاب جميعا في حاجة إلى دورات تعلمهم فن صياغة النص الشعري أو القصصي أو الروائي، دورات احترافية، يدرِّس فيها كتاب محترفون، ونحاة قديرون، وبلاغيون جديرون، وإذا كنا لا نستطيع العودة إلى زمن حصص التعبير المدرسي، فإن المدرِّس الذي سيقرأ هذه المقالة، أرجوه من أعماق القلب أن لا يفوِّت على طلابه تعليمهم فن التعبير، مع التمسك بكل قواعد التعبير، والتي تتميز بها لغتنا عن غيرها، فبه تستقيم لغتهم في المستقبل، وتصبح كتاباتهم بيانا رفيعا.