وحدة انسانية – الوحدة العامة «3»

علي بن سعيد العلياني -

إن إدراك حقيقة أن يبقى المجتمع وحدة واحدة تتطلب الكثير من الحيادية في النظرة العامة كما أنها تحتاج إلى الواقعية من حيث الإحاطة بواقع المجتمع وماهية أطرافه وتنوع أطيافه وتعدد مشاربه الثقافية وتحتاج إلى أن نكون بعيدا عن الطائفية والقبلية التي تقسم الناس على أساس جاهلي بدائي يقوم على الحسب والنسب والعرق وهذا ما اجتهد الاسلام في إزالته منذ البداية بغية إلغاء الفوارق الاجتماعية حتى تتآلف القلوب وتجتمع النفوس كما أن من كان همه إصلاح المجتمع لابد أن يكون ذا ثقافة عالية تتوزع بشتى المعارف والفنون ليكون ملما بكيفية التعامل مع الواقع من منطلق حب الجميع والحرص على مصالحهم وأيضا يجب ألا يسمع لكل ما يمت بصلة للإشاعات أو الأحاديث التي تتسم بعدم المصداقية أو تتصف بصفات تجعل منها غير مجدية في واقعنا أو لا تفيد مجتمعنا بل ربما تضره ، ومما لابد منه أننا إذا أدخلنا أنفسنا في مهمة إصلاحية لأي جانب من الجوانب ألا ندخل ونحن نضع في حسباننا أننا مصلحون من الدرجة الأولى وأن أراءنا لابد أن تقبل وأن كلامنا لابد أن يسمع بل نكون طرفا يحاول إيصال الحقيقة كما هي مجتهدا في ذلك فإن كان هناك تجاوبا من الطرف الآخر فالحمد لله وكفى وإلا فليس لنا أن نحمل الناس على ما نريد إجبارا وإكراها أو بطريقة تحملنا على رفع الصوت والشد والجذب فإن ذلك مما يزيد الطين بلة ويحمل على العناد والتعنت أكثر فأكثر ومما ينبغي الالتفات إليه في هذا الجانب أن نستخدم الشخص المناسب والوسيلة المناسبة والوقت المناسب وإلا فإننا لسنا مجبرين على أن نخوض غمار قضية لنخسرها ونخسر أهلونا وإخواننا من أجل كلام يقال أو خطأ عابر فالإصلاح لا يأتي بالتركيز على الخطأ بقدر ما هو إن نكون قدوة وأن نكون أمام الركب في طريقة تعاطينا مع الواقع ليبقى المجتمع في وحدة وتفاهم ووئام وهذا أدعى إلى قبول الطرف الآخر لأي حلول تتعلق بعودة المياه إلى مجاريها.

إن الشرع الحنيف وصف الذين يعيدون الحياة الزوجية إلى مجاريها بالحكمين عندما قال( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) فالحكم هنا لابد أن يتصف بالقدرة على الوصول إلى صيغة توافقية ترضي الطرفين دون الانحياز الى أي طرف وهذا أدعى إلى صفاء النفوس وتوحيد القلوب، وهكذا نجد ان ديننا يريد منا أن نتدخل إن كنا على قدر المسؤولية في أضيق الحدود وفي حالات محددة لا أن نتدخل في كل صغيرة وكبيرة كما يفعل الكثيرون اليوم ممن استساغ أن يجعل من نفسه مراقبا لتصرفات الآخرين وكبير أخطائهم ونشر زلاتهم وتسفيه آرائهم ….إننا اليوم أمام مفترق طرق من حيث عدم وجود أساسيات الحوار الصحيحة عند المحاورين ولا أبجديات التعامل مع حالات الفرقة والشقاق عند بعض المصلحين، إننا لابد أن ننطلق من أرضية أما نفعل الخير أو ندل عليه أو أن نصمت خصوصا إذا كنا غير قادرين على أن نوفر مساحة من الحيادية وسعة الأفق لأنفسنا هنا لابد أن نتوقف لعل من يقوم بالدور هو الأجدر والأفضل والأقدر على مواصلة المشوار إلى النهاية بأقل الخسائر وفي هذا كله نحن لسنا مجبرين على خوض غمار هذه التجارب خاصة إذا كان الأمر لا يستدعي أو كنا غير مؤهلين أو أن الأسلم في حالة من الحالات التوقف نهائيا، لأنك تجد أحيانا التدخل يفضي زيادة مساحة الفرقة بل ربما كان هذا التدخل سببا أساسيا في الفرقة نفسها ، بالمقابل سكوتنا على دعاة الفرقة هو السكوت الذي ينم عن الرضا أو تقبل ما يدعون إليه هو ما يجعل الفرقة تدب في أوصال المجتمع وتنتشر انتشار النار في الهشيم، هذا ومما لا شك فيه أن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تحمل في طياتها الكثير من هذه المظاهر بل أخذت على عاتقها حمل تتبعه بالاعداد التي لا تحصى من نقاط الخلاف المذهبية والطائفية والقبلية بل وتمتد إلى مسألة تفاوت الارزاق وتباين الدرجات المالية والاجتماعية، فهنا يكون التحريض والتشهير بل وأحيانا السب والشتم واللعن وأحيانا الاتهامات الباطلة القائمة على الزور والبهتان والكذب، لقد وصلنا إلى حافة الهاوية واليوم نرى ونسمع عند غيرنا لكن غدا ربما نكون نحن الضحايا فلابد من اليقظة والانتباه بدل الانجراف مع التيار ليحملنا إلى مهالك لا نستطيع ان نتبن كنهها الآن، ولقد حذرنا المصطفى عليه الصلاة والسلام من فتن كقطع الليل المظلم يصبح معها الحليم حيرانا، ومما لابد منه في هذه الحالة هو الاعتصام بالله وحبله المتين حيث قال تعالى( واعتصموا بحبل اله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) فالمؤمن يلتجأ الى الله ليعيذه من الفتن ما ظهر منها وما بطن والمؤمن يسأل الله أن يعصمه من الشيطان ومن هوى النفس الأمارة بالسوء، وأن أمضى سلاح للمؤمن في هذا الجانب هو إخلاص العمل لوجه الله فهذا يجرده من تبعات الهوى ويزيل عنه غبار المنافع الشخصية والمصالح الفردية وبالتالي يكون هنا تحييد لمداخل الشيطان ورفع لمكائد النفس الأمارة بالسوء.

أن تبتغي العمل لوجه الله هذا هو الأساس فأنت تخلص لله قبل ان تخلص للقضية وبالتالي فإن الله هو يوفق كل من التجأ إليه واستجار به وسأله التوفيق والسداد والمؤمن في كل حالاته يقول( وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ) ..والجانب الآخر الذي لا يقل أهمية أن يستأنس الانسان برأي من هو أكثر منه علما وأوسع تجربة في مجال التعامل مع الناس وتحليل قضاياهم بحكم معاشرته لهذه القضايا وأمثالها فترة من الزمن ومما يساعد على زيادة الوحدة العامة أن نعامل الناس بالتساوي فالبعيد والقريب، والصاحب وغير الصاحب يجب أن تكون المعاملة الإنسانية العامة متساوية، فالترحيب والاحترام المتبادل والتقدير والابتسامة ورحابة الصدر تكون حاضرة مع الجميع فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وتلطف لها وألان لها الجانب.. ومما لا يفوتنا أيضا في هذا الجانب أن نضمن لنا مكانة في نفس المخاطب وإلا فربما كان وقع فعلنا سلبيا فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها أئتلف وما تناكر منها اختلف، وهكذا فإن مبدأ الحفاظ على الوحدة العامة هو مبدأ إسلامي أصيل طبقه النبي عليه الصلاة والسلام في بيئة مضطربة وأعراق متباينة وأديان مختلفة وقد أتى ثماره اليانعة بأن تحول المجتمع العربي البدوي المتفرق ذي الطباع الغليظة الى مجتمع متماسك متآخي كانت له فيما بعد قيادة الركب الحضاري في العالم كله وهذا ينم عن طبيعة ديناميكية الدين الاسلامي الذي يستطيع ان يصهر كل الأعراق والأجناس في بوتقة واحدة وتحت مظلة الإيمان التي يستظل بها الجميع مهما اختلف توجهه. ونحن نعرف مسألة الذميين في المجتمع الإسلامي فهم الذين ارتضوا ان يدفعوا الجزية مقابل سلامتهم مع بقائهم على ديانتهم أيا كانت وكانت لهم حقوقهم الخاصة بهم لا يفرط فيها من قبل الدولة الإسلامية ولهم حرية التعبير عن دينهم بطريقة لا تستفز المسلمين ولا تقف عقبة في طريق نشر مبادئهم ، هذه الفئة كانت تتمتع بكل التقدير والاحترام وهذا يدل على حكمة القائمين على امر الناس في ذلك الوقت فهذا يفتح الباب للكل أن يعمل وينتج ويبذل بغض النظر عما هو عليه في وضعه الديني ودون الالتفات الى نواياه ودون التفكير فيما سيقدم عليه لذلك ازدهرت الدولة الاسلامية ونمت وتوسعت حتى وصلت إلى أقاصي الشرق والغرب بسبب الاستقرار السياسي وتماسك المجتمع ورسوخه على أسس صحيحة قائمة على بذل الحقوق واستيفاء الواجبات للكل وبالتالي لا ظلم ولا ضيق ولا تبرم وهنا تطمئن النفس وبالتالي تقبل على الحياة بكل أريحية .