جون كَيه – ترجمة قاسم مكي -
الفاينانشال تايمز -
نقل العداءُ الإغريقي القديم فيديبيديس، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة خبرَ هزيمةِ الفرس في معركة ماراثون (490 قبل الميلاد). نحن لا نعلم الوقت الذي استغرقه لقطع المسافة إلى أثينا أو حتى إذا كانت رحلته الملحمية تلك قد حدثت بالفعل.
لكننا نعلم أن الفائز في أول ماراثون حديث في الألعاب الأولمبية التي أقيمت في عام 1896 أكمل السباق في أقل من ثلاث ساعات. لقد صار البشر في العصر الحديث أفضل أداء حتى في الأعمال البسيطة مثل الجري. فأنت(إذا كنت عداء) كان يمكنك إحراز ميدالية في أول أولمبياد حديث بزمن مقداره 12.6 ثانية في سباق 100 متر. ولكنك الآن عليك تسجيل زمن يقل عن 9.8 ثانية كي تنافس في هذه الفئة من السباقات. وكلما طالت مسافة السباق كلما كان التحسن الذي تحقق في الأداء أعظم. ومن المرجح خلال الأعوام القليلة القادمة أن يكمل أحدهم سباق الماراثون في أقل من ساعتين. وهذا يمثَّلَ تقليصا للسرعة بنسبة 0.4% سنويا في المتوسط خلال القرن الماضي. وأكبر مساهم في إحراز هذا التحسن هو الفنون المُحَسَّنة (لإعداد العدائين) مثل التدريب المنهجي والنظام الغذائي العلمي والاعتناء الجيد بتنفيذ خطوات الركض. إن التراكم المنتظم للمعرفة البشرية يجعلنا أكثر إنتاجا في كل شيء تقريبا. وتدفع الأسواق الأكثر اتساعا كذلك باتجاه تحسين الإنتاج. لقد جاء معظم المتنافسون الناجحون في الدورات الأولمبية المبكرة من غرب أوروبا والولايات المتحدة ومن طبقة اجتماعية محدودة حتى في هذه البلدان. أما اليوم فيتم اختيار العدائين من مجموعة أكبر بكثير من المرشحين الذين يؤمل نجاحهم. وفي ألعاب القوى كما في التجارة يَسَّرَت العولمة المزيدَ من التخصص وأتاحت إمكانية التعرف على أماكن معينة لها ميزات تنافسية. فالعديد من أسرع عدائي المسافات الطويلة اليوم يأتون من شرق إفريقيا. ومعظم أفضل عدائي المسافات القصيرة هم من أصول غرب إفريقية ونشأوا في جامايكا أو الولايات المتحدة. إن تطور الأداء الرياضي يرمز لمصادر التقدم الاقتصادي. وهو رمز يكشف عن العديد من حالات سوء الفهم حول طبيعة هذا التقدم. أحداها تلك الفكرة التي ترى أن النمو الاقتصادي يزيد الضغط على الموارد من خلال مطالبته بالمزيد من المواد الخام. إن المصدر الرئيس للنمو الاقتصادي هو قدرتنا على تعلم عمل الأشياء بطريقة أفضل. وليس بوسعنا وقف تلك العملية (أي التقدم الاقتصادي) حتى إذا رغبنا في ذلك. واليوم فإننا لا نعهد إلى العداء الإغريقي فيديبيديس حمل رسالة من ماراثون إلى أثينا حتى إذا أمكنه تحطيم الرقم القياسي العالمي (2 ساعة و3 دقائق و23 ثانية). إذ يمكن لسلك نحاسي نقل خبر (الانتصار في تلك المعركة) في حوالي 0.14 ميلي ثانية. وكان يمكن لتويتر إنقاذ حياة فيديبيدس. إن أهم مصدر للتقدم الاقتصادي لا يأتي من أداء الشيء نفسه بطريقة أفضل ولكن من تحقيق نفس الهدف بطريقة مختلفة تماما. قبل عشرين عاما وصف بيل نوردهاوس، الاقتصادي بجامعة ييل، الكيفية التي سعى بها البشر دائما لإضاءة الظلام. ولكنهم فعلوا ذلك بطرائق مختلفة جدا. ففي وقت من الأوقات رسم الناس لوحاتٍ على جدران الكهوف على ضوء نار الحطب. وكتبت جين أوستن رواياتها على ضوء الشمع. وسار ويليام جلادستون (رئيس وزراء بريطانيا لأربعة مرات في القرن التاسع عشر) في شوارع مضاءة بالغاز. وأشعل توماس أديسون مصابيح الكهرباء ذات الإضاءة المتوهجة. واليوم فإننا نستخدم معدات إضاءة تستهلك مقدارا منخفضا من الطاقة ولا تكاد تطلق أية حرارة. ونحن حين نقيس السعر والمردود فإننا ننظر ليس إلى سعر ومردود الضوء ولكن إلى سعر ومردود المعدات التي نستخدمها لإيجاد الضوء. وهذه أشياء مختلفة جدا. ففي حين أن أسعار الحطب وشمع الإضاءة والغاز والكهرباء مالت إلى الزيادة الا أن سعر الضوء انخفض. وإحصاءاتنا لا تفشل فقط في عكس هذا الميل أو الاتجاه ولكنها تخطئ الوجهة. لقد ذهب نوردهاوس إلى الإيحاء بأنه ربما لذلك تكون مقاييس الأجور الحقيقية والدخول الحقيقية وبالطبع الأسعار خاطئة بهامش كبير. ولكن رغم تلك الومضة السريعة من الاهتمام حين راود الأمل بعض الساسة في إمكانية استخدام هذا النوع من التحليل لوضع قيود على الزيادات في رواتب التقاعد الحكومية الا أن المنهجية التي تكمن وراء الإحصاءات الاقتصادية الرسمية لم تكد تتغير. وإذا سألنا ميلتياديس (الجنرال الأثيني الذي قاد قوات اثينا المنتصرة على الفرس في معركة ماراثون) عن أشكال التقدم التي يمكن أن تساعده (في حروبه) فسيطلب دروعا أشد صلابة وعدائين أسرع. لقد ذكر هنري فورد (مؤسس شركة فورد لإنتاج السيارات) أن زبائنه، إذا ما سئلوا هذا السؤال، كانوا سيطالبون بحصان أسرع. ولم يتخيل الجنرال مليتياديس أن ما يحتاجه حقا هو سلك ألياف بصرية (لنقل خبر انتصاره). إن الأبطال الحقيقيين لعصرنا هم الفلاسفة الذين يرون أن من الممكن جعل الرسائل تنتقل بسرعة الضوء ورواد الأعمال الذين يرون أن أفضل طريقة لفعل الأشياء على نحو أفضل هي أن نفعلها بطريقة مختلفة.