خواطر دعوية: الداعية مَألَف.. يألف ويُؤلف

مليكة السيابية -

إذا تأملت في حياة الداعية وجدته شديد الاحتكاك بالمجتمع، متلمسا حاجات أخوته، مواسيا لهم، مساندا.. مشاركا..معطاءً بلا حدود..

ذلك أن الجانب الاجتماعي في حياة ابن آدم يشدُّه إلى التواصل مع الآخرين ليشبع حاجته إلى المحبة والقبول والتقدير، فهو محتاج لعونهم ونصرتهم، كما يحتاج أن يأخذ من معارفهم وخبراتهم..

أضف إلى ذلك أن الداعية ينبعث دافعه الاجتماعي من عبادة الله تعالى، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه مألف: « المؤمن مألف ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف»..

وهناك الكثير من العبادات لا تؤدى إلا بشكل جماعي كالحج والعمرة وصلاة الجمعة وغيرها، وكلها تقوي الجانب الاجتماعي في حياة المسلم.

الداعية مهتم بما يدور حوله: ترى الداعية مهتما بحال إخوته فهو يحب الناس حبا شديدا، ويتمنى لهم كل خير، ويرى في تواصله معهم أن ذلك يرويه عطاء ومحبة، ويجلس معهم وكأنه أصغرهم سنًا، وأقلهم شأنا، وتراه مصغيًا لما يقولون، فلا يتسرع بالرد على محدثه حتى يحتوي فكره قبل كلامه، ثم يردّ عليه بما يشفي فؤاده، ويروي عقله بالإقناع والحكمة.

فهو مدرك أن الاهتمام لما يجري حوله هو صفة الحكماء في كل مجتمع، وعلى كل مسلم يملكُ ضميرا حيا أن يهتم بحال أخوته من حوله، فيأخذ بأيديهم وينبههم حين ينبغي التنبيه، ويرشدَهم في مواضع الإرشاد، وهذه أعمق نظرية إنسانية علمنا إياها المصطفى عليه الصلاة والسلام حين قال: « مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ, فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا, وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا, فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ, فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا, فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا, وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا».. وهنا يعلمنا المصطفى صلوات الله عليه أن المجتمع قد يعمل بين أفراده من يسيئون من حيث يظنون أنهم يحسنون، والكثير من الناس من تلتبس عليهم الحقائق فيرون جوانبها ويغيب عنهم أصلها، وبعضهم يقع في خطأ التهويل والتعميم، فيهولون وينشرون الكثير من الأخبار والشائعات التي تشغلهم عن أهدافهم العليا.. والمجتمعات الراقية هي المجتمعات التي تراقب مستوى التطور السلوكي والمعرفي والانفعالي لدى أفرادها، ويتصدى حكماؤها ورشداؤها ومصلحوها لدراسة مواضع الخلل، ووضع خطة للعلاج ومتابعة تنفيذها… نزعة فردية متصاعدة: والملاحظ اليوم هو تصاعد النزعة الفردية بشكل واسع، فترى كل فرد في الأسرة الواحدة منكبًا على أهدافه الشخصية والعلمية والمهنية، ومنشغلا بلوحه الذكي الذي يحوي بين بوصاته الصغيرة مساحات كبيرة من العالم أجمع!

وقد تكون أخته في ضائقة مرضية أو نفسية أو مادية، ولا يدري عن أمرها شيئا وهي بالغرفة التي بجواره، بل إن الأخوة يجلسون في صالة واحدة وكل منهم في عالم بعيد من خلال هاتفه الخلوي!

وإذا حدث أن فُقدَت الشبكة الإلكترونية ذات يوم.. رأيتَ الفراغ والسأم والضجر قد أسدل أستاره، فساد شعور بالاغتراب داخل البيت!!

وهنا الداعية يقف وقفة محاربٍ شرسٍ للنزعة الفردية المتصاعدة لأنها تضرب بالجانب الاجتماعي في حياة الناس وتخل به، فالمجتمع الإسلامي مجتمع عميق الوحدة..متشابك البناء.. (( مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى ))..

فالفرد أضعف أمام المشكلات والنزوات، لكن مع الجماعة هو أقوى، وقوة المجتمعات تقاس بمقدار تماسكها وتواصلها في السراء والضراء،وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما من ثلاثة نفر في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية».

فكان من واجب الحكماء في التربية والتعليم، والمرشدين في مجال الوعظ والإرشاد والجانب التنموي الاجتماعي التصدي لهذه الظاهرة العالمية، لما لها من مخاطر على تماسك المجتمع، ولتفشيها بن الشباب دون وعي منهم، وإعادة المجتمع إلى موروثه وقيمه هي مهمة الدعاة والمرشدين..

سلاح الداعية: إن أقوى أسلحة الداعية هو الابتسامة الصادقة، لما لها من سحر على القلوب، وتأثير على النفوس، وهي أساس لياقته الاجتماعية، وقد قيل الابتسامة زكاة المروءة، ولأن الابتسامة هي انعكاس لقلب سليم صافٍ من الغلِّ والأحقاد، فيكون كلامه أقوى تأثيرًا في النفوس من كل حجج المنطق، وأدلة البراهين… وقد عبَّر عن ذلك ابن عطاء السكندري بقوله: « كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز».. ولذلك تجد لدى الداعية الكثير من الصداقات والعلاقات، لجمال حواره وروعة أسلوبه، وتراه لا يضيق بمن يخالفه الرأي، بل يحترم كل صاحب رأي وإن خالفه.. في الرأي تضطغن العقول وليس تضطغن القلوب وذكر يونس الصدفي: « ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة..».

ومن جمال حسِّ الداعية أنه يتفقد حديثه، ويتخيرُ لفظه لأنه يعلم أن لكل لفظ وقعٌ على قلب السامع قبل أذنه، « ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن».