امرأة يابانية تعبر الجسر إلى الضفة المقابلة

جوخة الحارثية -

هل يمكن لعلاقة صداقة نعقدها ونحن في المدرسة الثانوية أن تغير حياتنا إلى الأبد؟

قد لا يتمكن المرء من إدراك كم هي الحياة صعبة بالنسبة للأطفال والمراهقين في المدارس، ولكنه سيفعل ذلك حتما مع هذه الرواية؛ البطلة (آوي) تعيش كل سنواتها في المدرسة في عذاب رهيب، كل صنوف الإهمال والنبذ والسخرية وحتى تمزيق الملابس قد مورست عليها من قبل زميلاتها. جريمة آوي الوحيدة أنها لم تعرف أبدا كيف تعقد الصداقات، لكن هذه المهارة كانت أهم مهارة في العالم لفتاة في سنها، فنظام الشلل والمجموعات صارمة الحدود مهيمن، من تفشل في الانضمام لأية مجموعة أو تُنبذ منها، تتعرض للاحتقار إلى الأبد. حين انتهى الأمر بآوي إلى إجبار والديها على الانتقال لمدينة أصغر بحثا عن مدرسة جديدة، لم تجد السعادة المنشودة أيضا؛ حالات التنمر والتحزب طاغية في مدرستها الجديدة كذلك، لكن -قبل مرور وقت طويل- تكشَّفت الهبة في حياة آوي: ناناكو.

بالنسبة لناناكو أحب شخصيات هذه الرواية، فهذه الفتاة الناضجة، الحنون، المرحة، لن يصدق أحد إلى أي بيئة فقيرة وأسرة مفككة ضائعة تنتمي. إنها الفتاة التي قالت لصديقتها: «أريد منك أن تعلمي أنه ليس في المدرسة ما يُخشَى منه، حتى وإن كانت الطالبات ينقلن المعاملة السيئة من شخص إلى آخر ووصل الأمر إليك سأبقى صديقتك، وسأبذل كل ما في وسعي لكي أدعمك حتى وإن انقلب الجميع ضدك». لقد غيرت هذه الصداقة حياة آوي إلى الأبد. أصبحت ببساطة شخصا آخر، وعندما بدأت بقية الطالبات بتجاهلها في العام التالي كانت حوادث مأساوية فادحة قد حدثت لها ولناناكو في الصيف، ولم تكن ناناكو حينها في المدرسة نفسها لتقدم الدعم، ولكن وعدها لم يُخَلّ به؛ تأثيرها في آوي جعلها لا تعير أدنى التفاتة لمضايقة الأخريات.

لا عجب أن تفوز هذه الرواية المعنونة بـ «امرأة على الضفة المقابلة» لكاتبتها اليابانية ميتسويو كاكوتا بجائزة ناوكي في اليابان، فهي في غاية التشويق على الرغم من تفاصيلها الدقيقة وصفحاتها الكثيرة، إنها رواية تنتصر للروح الأنثوية، وتصور بدقة الحياة اليومية للمرأة اليابانية المعاصرة وصراعاتها، المرأة العازبة والمرأة العاملة، الأم وربة البيت، على أن كثيرا من هذه التفاصيل يمكن أن تخص حياة أي امرأة في العالم. إنها رواية تُسائل المرء عن الحدود التي تكتنف حياته، من يضعها؟ متى يتجاوزها؟ هل عليه أن يكابد الوحدة أم يبحث عن نظرائه في العالم؟ هل اختار هو خياراته حقا أم أن دربه قد رُسِمَ سلفًا وانتهى الأمر؟

السؤال الأخير ستطرحه شخصية مركزية أخرى في القصة: سايوكو. ربة منزل في الخامسة والثلاثين، وأم لطفلة في الثالثة. على الرغم من الاختلافات الهائلة في شخصيتي آوي وسايوكو، والاختلافات في ظروفهما فآوي غير مرتبطة، وتدير أعمالها بنفسها، فإن هناك جسرا ما تعبره كلتاهما باتجاه الأخرى. حين التقتا كانت الاثنتان قد خلفتا آلام المرحلة الثانوية بعيدا، كلتاهما في الخامسة والثلاثين، وكلتاهما على مفترق طرق. الجسر بينهما يُعبَر في النهاية.

ثمة نهر في هذه الرواية، نهر في البلدة الصغيرة التي انتقل إليها أهل آوي لحمايتها من المضايقات في المدرسة، يمكن للقارئ أن يتخيل هذا النهر: على إحدى ضفتيه آوي وصديقتها الوحيدة في المدرسة ناناكو، تأكلان لفائف الترياكي وسمك الطون والسكاكر وتضحكان، وعلى الضفة الأخرى سايوكو التي تخلت عنها صديقتها الوحيدة، استلزم الأمر ست عشرة سنة حتى تعبر سايوكو الجسر باتجاه آوي، ولكن ناناكو حينها لم تعد هناك. لن نعرف أي شيء عن مصيرها بعد الحادثة الشنيعة التي حدثت لها مع آوي في الصيف ما قبل الأخير في المدرسة. شوَّهت صحف الفضائح هروبهما من المنزل وعلاقتهما البريئة ملقية بالظلال القاتمة على مستقبل آوي وشخصيتها.

سنلتقي بامرأتين ناضجتين كلتيهما في الخامسة والثلاثين: سايوكو الباحثة عن عمل، وآوي التي تدير بتعثر كبير وفوضى محتدة شركة صغيرة. بدون كلام كثير ستجعلنا الكاتبة نغوص في صمت في أعماق كل منهما: ذكرياتهما الأليمة، تخلي الصديقات، شبح الوحدة، الفراغ العاطفي، توقعات المجتمع. سايوكو في غاية التحفظ والتهذيب، في قلق دائم على ابنتها لئلا تصبح مثلها: عاجزة عن عقد الصداقات. آوي منفتحة، محبة للسفر، غير منظمة، تجتر مصير صديقتها الوحيدة ناناكو، وذكريات علاقتها السيئة بأمها.

لعل الكاتبة عمدت إلى دفع القارئ- ولو بطريقة غير مباشرة- إلى التعاطف مع سايوكو، المرأة التي تركت العمل في شركتها لتتزوج، أم الطفلة الصغيرة التي لا تستطيع التواصل مع الأطفال الآخرين في الحدائق العامة كما لا تستطيع أمها التواصل مع أمهاتهن، الأم التي فكرت أخيرا أن وضع ابنتها في حضانة سيكون أجدى لها لتكوين المهارات الاجتماعية واللعب مع أقرانها، وهكذا فكرت بالعودة إلى العمل، ووجدت الفرصة في شركة آوي. لقد صورت الكاتبة مخاوف سايوكو وحياتها المنزلية والتغير البطيء الذي طرأ عليها بفضل العمل والاحتكاك بآوي، ولعلها عمدت إلى إكسابها تعاطفنا كقراء، ولكنني في الحقيقة غير شديدة التعاطف معها، أرى أن شدة حذرها تجاه الحياة مبالغ فيه، وعلى الرغم من أن الكاتبة صورت زوجها بصورة هامشية إلا أني لا أعتقد أنه شخصية سيئة في النهاية، فعلى الرغم من أنه لم يبدِ حماسا لعمل زوجته في مجال تنظيف البيوت وهي الخريجة الجامعية، إلا إنه لم يعترض أيضا، لكن الكاتبة تدس كثيرا من الإشارات لإدانته، في حين لم يكن يتصرف إلا كزوج عادي يحاول أن يتفهم ظروف حياته الجديدة، وكذلك أدينت أمه، الحماة، مع أن موقفها طبيعي بالنسبة لعمرها وثقافتها. وفي الصورة نفسها القاتمة وُضِعَت أم آوي لما كانت مراهقة، وقد كرهتها آوي لكل العناية (المحقة والصائبة) التي قامت بها لحماية ابنتها. لقد فعلت هذه الأم كل ما بوسعها وتركت بلدتها وعملها إلى بلدة أصغر بحثا عن ظروف أفضل في مدرسة جديدة لابنتها، لكن كل ما ووجِهَت به هو النكران والهرب. تطرح الكاتبة بلا شك قضية اختلاف الأجيال، ورغبة نساء صغيرات وكبيرات في تحقيق الذات، وحدود الرعاية الأمومية، ولكن الأمهات – الـمُدانات ضمنيا- في الرواية لم يقمن في الحقيقة إلا بما أملاه ضميرهن.

هناك جانب آخر في العوالم التي تصورها هذه الرواية كان محط دهشتي، على الرغم من ولعي بالروايات اليابانية وزيارتي لليابان، وهو الطريقة التي يُتوقع من الأفراد أن يعبروا فيها عن أنفسهم، أو السلوك الذي يُتوقع من الآخرين داخل المجتمع الياباني، فعلى جميع الناس، رجالا ونساء، وخاصة النساء ألا يعبروا عن مشاعرهم بأي طريقة، على كل فرد في المجتمع أن يكبت غضبه وضيقه وتعبه وأي مشاعر سلبية أخرى ويبتسم طوال الوقت. حتى في داخل العائلة الواحدة لا وجود لأي عصبية أو كلمات حادة مهما كان واقع الحال، على المرء أن يكون في أقصى درجات الحرص في كلامه، حين اعتذر زوج سايوكو عن عدم قدرته على حضور اليوم الرياضي في الحضانة قالت له: «للأسف»، «فظن أنها تتهكم، وأجابت بنظرة متألمة لطفلة تلقت تأنيبا، قال: إن عملي ليس كعملك كما تعلمين…تذكرت سايوكو أنها سمعت هذه المقولة من قبل، لذلك يجب أن تكون قد تعودتها الآن. لكن وخز الكلمات يرفض أن يزول». وهكذا فأي نظرة غير مرتاحة، أو نبرة خشنة هي محط استنكار داخل العائلة فما بالك بالعمل؟ لما كانت سايوكو تنظف أحد المنازل مع زميلتها فوجئت بكمية العفن في المنزل، فتبادلت نظرة عابرة سريعة مع زميلتها، فما كان من رئيستهما إلا أن عنفتهما على هذه النظرة، موضحة لهما أن عليهما الابتسام مهما كانت فظاعة الحال. أحسست وأنا أقرأ عشرات المواقف الشبيهة أن المجتمع الذي يجبر أفراده على هذه الدرجة من كتمان الانفعالات بدعوى التهذيب لهو مجتمع قاس.

في لحظة ما قالت آوي الفتاة الصغيرة لصديقتها ناناكو: «معكِ أستطيع فعل أي شيء»، وبعد سنين طويلة ستسمع آوي الجملة نفسها موجهة إليها هذه المرة من سايوكو. إنها رواية شائقة عن الصداقة والنضج وخبرات الحياة.


صدرت رواية «امرأة على الضفة المقابلة» للكاتبة اليابانية ميتسويو كاكوتا عام 2011 بترجمة أسامة منزلنجي، ضمن مشروع «كلمة» بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث.