نوافـذ.. تعالوا نتعلم الهجوة

محمد الحضرمي -

Fuyodh2@yahoo.com -

الهَجْوَة أو الهَجُوْ، طريقة اعتمدها معلمو القرآن الكريم في عُمان، يلقنونها تلاميذهم، ومن خلالها يكتسبون النطق الصحيح للحروف والكلمات العربية، وبها يستطيع التلميذ أن يسلك في قراءة القرآن، فلا يزل أو يحيد في حركة أو تشكيل إعرابي، تبدأ الطريقة بتعليم “ألف ليس له”، ثم تتوالى الحروف بعد ذلك: باء تحته نقطة، تاء فوقه نقطتين، ثاء فوقه ثلاث نقط، الخ الحروف الثمانية والعشرين، ثم تأتي طريقة تهجي الحروف: “ألف لام فاء” وتطويعها في الحركات الإعرابية الأربع؛ بالألف، والواو، والياء، الهاء، ليصبح حرف الباء: (با، بو، بي، به) إلى بقية الحروف، حتى تتمرن اللسان على النطق بكل الحروف, وبها يتعلم الطالب قراءة سورة الفاتحة هجوا، حيث الكلمة تتفكك إلى حروف.


والملفت في الهجوة التناغم بين الحروف، وقراءة المعلم لها بطريقة غنائية عذبة، تسيل من بين الشفاه، فيغرِّد التلاميذ بلحنها الرقيق، وبهذه الطريقة العمانية الخاصة، استطعنا أن نحفظ الحروف وقصار السور من القرآن الكريم، وكانت “الهجوة” أول ما نتعلمه، بمثابة مفتاح سحري لتعليم الحروف، لقد تذكرتها وأنا أحاول مع ابني الصغير أن يتهجَّى الحروف، وهو لا يزال في صفه التمهيدي، وحين أسمعته قراءة الحروف بطريقة الهجو التي تعلمتها في صغري، شعرت به متفاعلا معي، وكأنه يتابعني بتمتمات رقيقة، شعرت به ينساق إلى ذلك التناغم بين الحروف وكأنها أنشودة.

في تلك اللحظات عادت بي الذاكرة إلى الوراء، إلى أربعة عقود انطوت من عمري، فوجدتني طالبا صغيرا أرفرف كطائر بين البيت والمدرسة، ورأيت أبي المعلم يسحب قدميه، من بيتنا الطيني في الحارة القديمة، إلى مدرسة تعليم القرآن الكريم التي تقع في ناحية منها، وكانت أياما مكللة بالفرح إذ ألتقى فيها بأترابي ومن هم في عمري، كنا بنين وبنات نجتمع تحت سقف مدرسة الطين في فصل الشتاء، أو تحت ظل شجرة مجاورة لها في فصل الصيف، لنبدأ بتعلم “الهَجْوة”، ومن ثم نشرع في قراءة القرآن كل أسبوع في صف واحد، فتتساير سنوات الدراسة في الصفوف الابتدائية بالمدرسة النظامية، مع سنوات تعليم القرآن في مدرسة الطين القديمة أو تحت الشجرة، وبعد سنوات معدودة نختم قراءة القرآن كاملا، لتفرح الأسرة بختم ابنها القرآن، وهي فرحة تعادل اليوم تخرجه من الجامعة بمعدل رفيع. أيام تعليم القرآن في غضارة العمر، لها طراوتها في النفس، وجمالها الآسر في الروح، إنني أتذكر تلك الأيام، ولعلكم مثلي تتذكرون كذلك، وكأنها صور محفوظة في ذاكرتنا، صور لها بهاؤها الخاص، وسحرها الفاتن، تشبه سنوات التعليم للطالب الجامعي، وفرحة تخرُّج التلميذ من مدرسة القرآن الكريم، تعادل اليوم فرحة إنهائه لدراسته الجامعية.

كنا في مدرسة تعليم القرآن قلوبا واعية، لا نفقه من الحياة إلا ما نتعلمه من حروف وكلمات، لا نعرف الكدر، وليست لدينا أحلام، إلا أن نعود إلى بيوتنا، محملين بضحكات عذبة، وكلمات يتردد صداها في الذاكرة. تركت ابني الصغير مع منهجه الدراسي الحديث، والتفت إلى أبي الذي يعيش شيخوخته المباركة بعد سنوات طويلة في تدريس القرآن، قلت له: أبي، اقرأ لي “الهجوة”، وكأنما تنفَّس قلبه بذكرى ممزوجة بالحنين إلى تلك الأيام، فرد علي، ما ذكَّرك بها؟ ثم راح يتمتم بها: (ألف لام فاء، باء بي ألف، بي باء ياء ..)، بصوت خافت يتردد من حنجرته، كماء يسيل في ساقية جافة، لم تعرف الماء سنينا طويلة.