صالح العامري -
•بالفطرة الحرّة وحدها، قمتُ أحيي الدخان الرسّام، الدخان المتهتك، الدخان المطّاير، مع أنّ البشر يمضون مكتظين ومحتشدين في وجه النار المركزية. بالرائحة التي تشوي الكستناء البريّ كنتُ أتعدد وأنقسم وأتكاثر في ألسنة الدخان، بعد أن نكست النيران راياتها وخلع الجمر عنه قميصه الأول. بالرغبة المتضورة للطيران، الذي يهسهس في روح الطفل، نصبتُ أجنحتي وتوكلت على دخاني. بالشبق الجامح في جوهرتي قامرتُ بالرصاصة المرّة في الروليت، مخلّصاً الوليد من أمّه العدوانية، وفاصلاً النصر عن الرحم، ومباركاً الدخان الجوّال الذي يرسم الغيوم.
•يا شقيق السراب، جسدك يتهاوى في ركامه، ما إن تتشكّل تتحوّل، ما إن تستقيم تترضّض، ما إن تستطيل تتربع وتتثلث وتتعيّن، ما إن تنتصب تتفرّج، ما إن تحتطب تشتعل أشجارك، ما إن تتهندم تتعرى، ما إن تقف على قدميك: تتزنبرك في رأسك، ما إن تجثو خادماً: تجلس على عرشك مطّايراً.
•تخيّرتَ طريقَكَ فانصاعت السماوات، تبعتَ حنجرتَكَ فرفرف الطائر، باغتّ إرادتَكَ فصرتَ خالداً أيّها الفاني، رأيتُكَ تكتب في عينيك روايتك فاندلعتْ القصائدُ من خاصرتيك، انزلقتَ كسمكة رمادية فشبع الراؤون، ارتفع بهاءُ أشرعتك فشعّ ضمير بوصلتك، تكاثرت ألسنة غيابك فانهمر – كالسيل – على قدرتك اللاحسون ومصّ رغوتك المصّاصون.
• نصبتُ شباكي لكي آخذكَ في ظلامي، وعندما اصطدتك توسلتَ إليّ أن أمهلك يوماً أو يومين لكي ترتّب أوتاد بيتك وأوضاع مواقدك الغبراء. حاصرتك في غليوني فقمتَ تأخذ أغلالك وتطير بي في صدري. أغلقتُ عليك غطاء طبق المودّات فصرتُ آكلني بملاعق من أجنحة الفراشات المجنونة.
•أرى أشجاراً من دخان، غزلاناً من دخان، نموراً من دخان، بلداناً من دخان، كؤوساً من دخان، شخوصاً من دخان، كلاماً دبقاً من دخان مطّاير، ألسنة زلقة من دخان خبيث، رئات مسرطنة تعدو في دخان أسحم، أقماراً متكسّرة كالزجاج في دخان يزدرد ساكنيه، فقهاء ومتكلمون يتعاركون على قطعة من دخان، أكاديميون مصابون بالبرص والاكتئاب يتسلقون سلالم دخانية، دراجات نارية وشاحنات تنفث مؤخراتها الدخان على الدخان، صبياناً أشقياء يتبولون في الأعالي على فوهة بركان ينبعث منها الرماد والدخان والأبخرة.
•أرى قطة وحشية عمياء تركض برعبها وحراشفها من الدخان وإلى الدخان، أرى جريمة كاملة تحتشد في كتاب الدخان، سوقاً يبيع جثث زرافات مدخنّة، أعياداً ترفع على بزاتها العسكرية نجوماً وتيجاناً دخانية، فاكهة مسمّمة نُقِعَت منذ الأزل في دخان الضغينة والأحقاد يتناولها شعراء مغدورون. أرى رؤوساً لا مرئية تختبئ وراء السور لكنّ الأدخنة تشي بهم. أرى الأشجار تتحرك لكنّ زرقاء اليمامة كان قد اقتلع عينيها طوفان الدخان. أراك أراك أيها الدخان تتربّص بالخرائب وتترصد أعواد ثقابها النائمة.
•أتحسسك أيها الدخان، أرطّب لعابي بديدنك وجبلتك، أنفخ فيك كما يفعل الأطفال في الشموع المهدرة، أحسوك بعينيّ لعلك تنفع في الشدائد والأيام الحالكة، أقبّلك لعل الجميلة التي فيك تستيقظ من مغبة الغرق، أزيل عنك الغبار لعلّ زمنك تلمع كتبه وخزانته وموقده، أجلس في مطبخك السريّ لعل قهوتك تقول لي: صباح الخير، أهزّك لعل خرسك يندفع مولياً خارج الباب، أمسّد ضبابك المحايد لكي يتلظّى وينتفخ ويدخل في نار لغتي المتعطشة.
•الدخان والسراب حبلت بهما نفس الأمّ، التي اسمها النار. لكنّ وليدها المسمّى دخاناً كان بصيراً، لذلك يحدّق في قبة السماء بعينين فاغرتين تنهشهما أشواق الأبد، بينما كان أعمى ذلك الوليد المسمّى سراباً، لذلك تنطلي عليه لعبة الجاذبية، فيخرّ على وجهه ويتقلب بعينيه الفارغتين على أرض الصيف.
•كان الدخان يحكم مملكة الأشباح النارية، بينما كان السراب يحكم مملكة العميان الهيولية.
• الدخان أحمر يتقنّع بالرماديّ كي يخطئه سهم العين العدوة، بينما السراب أزرق يتقنع بالفضة، يشربه الظمآن المقتول برغبة الوصول.
•دخلتُ فصل الدخان فعلمني طبشوره الناقم أن أتعفف عن الزائل. دلفتُ مرج الدخان الشاسع فعلمني هواؤه الجافل أن الفردوس هو السفر. أتيتُ أتسكع في حقل ذرة الدخان فحزمتني السنابل في ذهبها، فصرتُ أتجوهر وألمع. ذهبتُ في آخر الدرب، أصفر بأغنية ظننتها فانية، لكن كلما كادت أن تتلاشى تجمعتْ من حيث لا أدري في مجد الشكل.