مع د.أمين الزاوي ود.ربيعة جلطي المكتبة الوطنية في الجزائر

سيف الرحبي -

بدعوة من المكتبة الوطنية في الجزائر، ومسؤولها الأول الروائي أمين الزاوي، ذهبت هذه المرة إلى الجزائر، هذه البلاد الفسيحة، الأكثر اخضراراً وإمكانات في المدار العربي أو من أكثرها، لم أذهب إليها منذ فترة طويلة نسبياً.

أنا الذي عشت فيها قبل أن تلم بها كارثة الحرب والدمار.

كانت قامة الرئيس هواري بومدين الذي رحل مبكراً، المهيبة والقوية، ما تزال طريّةً في تربتها، وعهد جديد يرتسم في الأفق الجزائري كما العربي، مفتوحاً لحزمة من الاحتمالات المندفعة نحو السلب وإجهاض المشاريع والأحلام.

منذ تلك الفترة الصاخبة التي كانت فيها الجزائر نقطة استقطاب فاعلة ومؤثرة، لم أذهب إلا مرة واحدةً لحضور مؤتمر نظمته اليونسكو، إذ إن المؤسسات الوطنية ما زالت تعاني آثار تلك الحرب الأسوأ من الحروب الأهلية ، وأكلافها على كافة المستويات. كان الأمن على نحو من الاضطراب والالتباس حيث لا يمكننا التحرك إلا بحراسة الأمن والشرطة..

هذه المرة ذهبت مع صديقي أمين الزاوي من القاهرة ، نزلنا في مطار جديد كل الجدة عن الذي نعرفه سابقاً. كان مطراً خفيفاً والجو معتدل. وكنت أرى الجزائر من خلف زجاج السيارة كمن يستيقظ من كوابيس باهظة أوشكت على الرحيل.

وكانت لقطات عن أماكن ونشاطات ووجوه اختفت إلى الأبد ، تعبر الذاكرةَ كبرق متقّطعٍ، لا يلمع إلا ليغادر ويختفي في أعماق الغابات والكهوف. تلك الغابات الجبلية المكللّة بالثلج والأرز التي عبرناها ذات يوم حتى أعلى قمة في جبال (جرجرة) حيث تمتد بنا الإقامة لأسبوع أو أكثر.

***

عرفتُ أمين الزاوي، الذي تعرض لمحاولة تفجير سيارته وقت كان يعمل أستاذاً في جامعة وهران ونجا منها، مع ابنته، بمعجزة ، عرفته حين كان ينجز مع زوجته الشاعرة ربيعة جلطي، رسالة الدكتوراه في دمشق، ومثلما تقول الدكتورة ربيعة.. (كبرنا معاً) فعلاً كبرنا، لكن أحلامنا التي أوشكت على الشيخوخة، تتجدد باستمرار، ربما بفعل سفر الأعماق والكتابة والصداقة الحقيقيّة.. وأعتقد أننا حتى حين نموت ستُنبت هذه العناصر، زهوراً ضاحكة فوق قبورنا.. لاحقاً تقطعت بنا السُبل وكل ذهب إلى مكان لكن خيط التواصل ظل قائماً بين الوقت والآخر.

كانت دمشق بوابة معرفتي المباشرة بالجزائر والجزائريين قبل أن أشد الرحال نحوها. وكان الزاوي وربيعة من أعز أصدقائي بجانب الكاتب الروائي واسيني الأعرج والراحل عبدالله طرشي والشاعرة زينب الأعوج ، والقائمة تطول..

وكان هناك من العمانيين على ما أذكر الشاعر ناصر العلوي والدكتور سالم سليمان وغيرهم..

هذه المعرفة التي أعتز بها توطدت مع الزمن وأتاحت لي معرفة خصائص الروح الجزائرية الحدية وغير القابلة للمساومة حين تصل الأمور إلى منطقة هذه الروح التي لا تتردد في التضحية من أجل الصداقة بعينها، روحاً سمِحة جداً ، لكن الخطأ ممنوع.

كم من المواقف التي تختزنها الذاكرة في هذا السياق وعبر شخوص وأمكنة مختلفة.

***

المكتبة الوطنية التي يتولى أمين الزاوي مسؤوليتها بمرتبة وزير، افتُتحت حديثاً فهي غير تلك التي كنا نعرفها. موقعها المثالي الملاصق لحديقة التجارب التي تمتد عبر فضاء يوصلها بغابات الجبال الخضراء المحيطة بالعاصمة.

وتحت هذه الأرض المرتفعة، يتموّج البحر الذي كنا نتسلق السلالم الحجرية حتى نصل إليه، وإلى المقاهي والمطاعم المتاخمة له وللميناء الممتد مسافة كبيرة (البيركامي) تحدث كثيراً عن طفولته وسباحته في هذه المنطقة بالذات

مكتبة بهذا الحجم والطموح الحضاري، تشبه خلية نحل بشرية وسط غابة ، قريباً من البحر، وأصدقاء..

موقع المكتبة ربما يستدعي أطيافاً من قبيل المكتبة البورخيسية، نسبة إلى الأرجنتيني بورخس .

ذلك ما يستأثر بالتأمل الجمالي المفارق في بلد يحاول تخطي تركة العنف الثقيلة ، عنف الأبناء والأخوة والأقارب.

تحاول الثقافة الجزائرية الغنية بمشاربها ولغاتها واختلافاتها ، لملمة أشلائها المبعثرة ، نحو أفق آخر..

المكتبة الوطنيّة طليعة هذا المسار وروحه المتدفقة بالعطاء والتعدد والانفتاح.

لصالح من وأد هذه الإضاءات الطليعيّة في هذا الزمن الصعب؟


كتبت هذه العجالة وقت تولي د.الزاوي مسؤوليّة المكتبة الوطنيّة وملابسات مغادرتها لاحقاً.