عائشة الدرمكية -
(للفهم البشري المشترك ضرورته الخاصة ؛ إنه يدافع عن حقه بالسلاح الوحيد الذي يوجد رهن إشارته، وهذا السلاح هو الاعتماد على ((بداهة)) ادعاءاته واعتراضاته…) . هكذا يقرر هايدجر في حديثه عن الحقيقة في (كتابات أساسية) لمحاولة ترسيخ العلاقة بين الحقيقة والواقع ، وهو هنا يشير إلى صوت الفهم البشري السليم المهم لإجراء حوار بين الفلسفة والفهم السليم لأنه – أي هايدجر – يعتقد أن هذا الحوار أمر ميؤوس منه؛ لأن الفهم البشري يعتمد ويستند إلى بداهة آرائه وادعاءاته معتبراً أنها مفهومة ومقبولة من تلقاء ذاتها أي أنها في غير حاجة إلى مساءلة أو تبرير. الفهم السليم إذن يستعمل كلمة (حقيقة) للمطالبة بالفعالية والمنفعة التي يدلناعليها ذلك الفهم.
وإذا دققنا النظر ملياً فيما يطرحه هايدجر فإننا يمكن أن نناقشه في البحث عن حقيقة (المعتقد الشعبي) ورؤيته الفلسفية القائمة على التصديق المطلق أي باعتباره (حقيقة) دون محاولة من ممارسيه لإعمال العقل والتفكر في حقيقته أو مدى المنفعة منه. وهو سؤال لا يمكن أن يطرحه إلاَّ من كان خارج مجتمع هذا المعتقد؛ ذلك لأن ممارسيه اتخذوه باعتباره حقيقة مطلقة قائمة في الأساس على الفهم السليم ؛ فالمعتقد القائل بالتبرك بالأشجار أو العيون على سبيل المثال عن طريق زيارتها والطقوس المصاحبة لتلك الزيارة ، كلها أمور لا يمكن أن يقوم بها شخص غير معتقد بها، بل إن الاعتقاد والتصديق يسبق السلوك الداعي إلى المطالبة بالفعالية والمنفعة.
إن المسار الذي تتخذه المعتقدات الشعبية هنا يكشف الفلسفة الميتافيزيقية التي يقوم عليها، وهي تتخذ مساراً داخلياً نحو العلاقة الإنسانية بالطبيعة والموجودات المتعلقة بالروح من ناحية، ومساراً خارجياً نحو السلوك الإنساني التوافقي مع الطبيعة، وهذا سيحيلنا إلى تلك التشكيلات الخطابية والمنظومات الوضعية التي تنتمي إلى النظريات العلمية من مثل المنهج التجريبي الذي يعتمد على العلة والمعلول واختبار الفرضيات. ذلك لأننا هنا نزعم أن هذه المعتقدات نشأت كما نشأت العلوم والمعتقدات الأخرى. إن النشأة الأولى للمعتقد تفسر لنا علاقة المناهج التجريبية بعلوم الاجتماع المختلفة على الرغم من أن ظاهر هذه المناهج يتمثل في فرضياتها العلمية ؛ ذلك لأن المعالجة الخطابية لنصوص المعتقد الخاص بجانب الإدراك العام للظواهر والممارسات الاجتماعية المتعلقة به، هي التي تفسر النشأة الأولى للمعتقدات الشعبية جميعاً.
وإذا أردنا إثبات ذلك فلا أدل من أن نعرض لمجموعة من المعتقدات الشعبية المتوارثة والتي كان الأجداد والآباء بعدهم يؤدونها باقتناع وتصديق شديدين دونما التجرؤ على نقدها أو تفسيرها، ذلك لأنها واقعة في سياقات مغلقة لا يستطيع الفرد الانفلات منها؛ فعندما تتبرك بالآبار أو المساجد القديمة التي (يُعتقد أنها سكن للأولياء) يجب أن ترتدي لباسا معينا وتتخذ من طقوس محددة خطة سير لك، ويجب عليك قبل ذلك كله أن تصدق وتؤمن بما أنت مقدم عليه، وإلاَّ فإنك لن تحصل على فائدة ولن يتحقق أملك من الزيارة، بالإضافة إلى أنك قد تصاب بالضرر. هذا كله جعل أفراد المجتمع في تيقن تام اعتماداً على الوعي والفهم والإدراك السياقي المحيط من ناحية وبناء على التجربة التي قد تكون (حقيقة، أو متوهمة، أو مصادفة)، ومن هنا كانت النشأة الأولى للمعتقد الشعبي الذي انبنى وترسخ في الذهن والوعي عن طريق التجربة والملاحظة، وهو المبدأ الذي اعتمده اسحاق نيوتن في اكتشاف الجاذبية الأرضية، واعتمده آخرون في اكتشافات علمية مهمة للبشرية.
الاكتشافات إذن قائمة على جانب واقعي وجانب ميتافيزيقي متخيل، وهكذا انبنت المعتقدات الشعبية التي ترسخت ضمن حاجات إنسانية مضمرة تعبر عن التمايزات الاجتماعية والدينية والثقافية التي تشكل بنية الحيز الاجتماعي والثقافي، ولذلك فإن إمانويل كانط في كتابه (نقد ملكة الحكم) يعرض مفهوم الطبيعة بوصفها علاقة بين الواقع والميتافيزيقيا من حيث ارتباط هذا المفهوم بالغايات وهو مبدأ متعالٍ واضح الغايات وهي قواعد يتم الاعتماد عليها قبلياً عند البحث في الطبيعة، وهي لا تعمل إلاَّ بإمكانية التجربة ، وبالتالي – بحسب كانط – إمكانية معرفة الطبيعة.
إن كانط هنا يعرض الطبيعة بوصفها التجريبي أي التي يحددها العلم التجريبي وإن كان بشكل جزئي أو غير مكتمل في بعض الأحيان، وهو هنا يصف تلك القوانين بـ (جمل مأثورة عن الحكمة الميتافيزيقية تتظاهر بعدد من القواعد التي لا يمكن إظهار ضرورتها من المفاهيم)، وهو في ذلك يعرض لغرضية الطبيعة لملكاتنا المعرفية واستخدامها، التي تتضح منها بالغ الوضوح، وهو مبدأ متعال للحكم، ولذلك فإنه يقول إن ذلك المبدأ يحتاج إلى استنباط متعالٍ، يجب أن يُبحث من خلاله عن أساس لمثل هذا الحكم في أصول المعرفة قبلياً، ولذلك فإن تلك المعرفة القبلية وذلك الاستنباط لقوانين الطبيعة وقدرتها يدفع المجتمع لمحاولة تحديد موضوعات معينة لتلك المعرفة بطرق كثيرة ومتعددة قائمة كلها على التجريب للوصول إلى ما يمكن أن يتوافق مع الفهم والإدراك المعرفي للطبيعة وسياقاتها وتمظهراتها، بل وما وراء الطبيعة، أي العالم الميتافيزيقي الذي يشتغل مع واقع الطبيعة في تكوين ما يسميه كانط بـ( القوانين الكلية للطبيعة).
وإذا كانت الميتافيزيقيا بشكلها العام نمط من أنماط غير المباشرة في تعبير الناس عن واقع همومهم ومخاوفهم وأفراحهم ومشاكلهم ومعارفهم، وما استعصى عليهم حله أو فهمه من الأمور والتوصل إليه ، فإن المعتقد الشعبي كما يقول (دورسون) هو” الخيال الذي يقوم بناؤه على عناصر الواقع الثقافي”، وهو ما تم تسميته أيضاً (Ritual Myth) أي الأسطورة الطقوسية؛ ذلك لأن المعتقد الشعبي سينشأ عن متلازمة (الواقع / الميتافيزيقيا) مجموعة من الطقوس المبنية على تصديق قائم – بالإضافة إلى التجربة – على حكاية مرتبطة بالقوى المتعددة المحيطة بالإنسان؛ وهذا يعني أن الأسطورة الطقوسية هي الجانب الكلامي لهذه الطقوس.
وعليه فإن الأسطورة الطقوسية هنا مرتبطة بالقوى الهائلة التي تحيط بالإنسان بوصفه كائنا أساسيا يشتغل على تحريك هذه الطاقات واستثمارها من ناحية ومراضاتها ومسالمتها من ناحية أخرى ، ولعل المعتقد الذي شهدنا بعضه أو سمعنا بعضه الآخر ممن عاصروه لا يكشف لنا هذا الجانب الأسطوري (الكلامي)؛ ذلك لأن الأسطورة المرتبطة بالمعتقدات ما عادت تُحكى أو نسيها المجتمع بالتقادم وظل الطقس باقيا ومنفصلا عنها.
فإن المعتقد الشعبي بما يحتويه من خيالات وإبداعات ميتافيزيقية هو دال من دوال الحضور في مقابل الثقافات الغائبة، وتغييبه هدر لرأسمال إنساني وطاقة تفتقر إليها كثير من الثقافات؛ فبما أن المعتقد خيال يقوم بناؤه على الواقع الثقافي والاجتماعي الذي يعيشه الفرد في مجموعته فإنه ميدانياً يتمظهر في أشكال الأسطورة والخرافة والميتافزيقيا الذي يتناقل شفوياً وتتم وراثته عبر الأجيال السابقة في امتداداتها الثقافية والحضارية فهي بالنسبة للمجتمع خيوط الأحلام الممتدة إلى المستقبل، والسلوك الذي يَقدم عليه الشخص أو الجماعة ينتج ضمن نسيج من الواقع الثقافي المدرك محملا برغباته المتطاولة عنان السماء، وهو ما يعكس بالنسبة للمتلقي الخطاب الذي يقدمه (المعتقد) بوصفه حالة من حالات السرد قائم على الحكي والتمثيل معاً.
وعليه فإن البناء السردي الذي يقوم عليه نص (المعتقد) يمثل في تصورنا وعي النص المنتج للذة التحقق، وهو تحقق لن يحدث إلاَّ ضمن سياق التصديق والاطمئنان، وهذا يكون في سياق التآلف مع الطبيعة ببعدها الواقعي وبعدها الغرائبي العجائبي المتمثل في الميتافزيقيا ؛ فالعلاقة بين الأشجار والآبار والعيون والمساجد بل والشمس والقمر كلها تندرج تحت هذا التصور، لتشكل المعرفة التي تؤلف الانسجام بين الإنسان وما حوله من عوالم الطبيعة التي لم يكن ضمن مجموعة من السياقات والقناعات يستطيع التجرؤ عليها، فهو محكوم بتلك التصورات الميتافزيقية، ولذلك سنجد أن (المعتقد) بوصفه حكي وسلوك يهتم بتنفيذ الطقس أكثر من اهتمامه بتأويله أو محاولة تفسيره أو تبريره، وهو في هذا يدخل من حيث التصنيف مدخلا قدسياً بالمعنى النظري للكلمة؛ وهذا ما يفسر عجز الأولين عن مخالفته، فهو بالنسبة لهم طقس له احترامه وتقديره لأنه يقدم طريقاً للوصول إلى تلك العلاقة الراسخة بين الإنسان والواقع من جهة وبينه وبين الميتافيزيقيا من جهة أخرى.
ولأن المعتقد يمثل كما قلنا العلاقة الراسخة بين الإنسان والطبيعة؛ فإن ذلك يفسر لنا ما ذهب إليه ميغان موريس من أن الطبيعة هي (القوة الداخلية التي توجه العالم)، وهو تصور يذهب إلى ما أسماه (الطبيعة الكبرى)، التي تمثل القوة المهيمنة والموجهة للعالم حتى بواكير القرن الحادي والعشرين؛ إذ يذكر أنه من القرن الرابع عشر في الغرب، تم تشخيص الطبيعة وتصويرها وكأنها تعمل، بدورها كآلهة، وسلطة سماوية، ومدافع ملكي دستوي في القرن الثامن عشر، ومولدة في أواخر القرن التاسع عشر، إلى أن أصبح هذا المصطلح يشير إلى الفعالية والمنتوجات والإنجازات الإنسانية، وغالبا ما توضع الخلافات التي تنشأ حول القوة النسبية وأهمية الفعالية الإنسانية وإمكان التغير والتحويل بصفتها الطبيعة مقابل الثقافة أو الطبيعة مقابل التنشئة.
يذكر موريس أن مصطلح الطبيعة يعبر منذ القرن السادس عشر عن الطموح الإنساني بألفاظ الرغبة في التعالي، الذي يجعل من الطبيعة الأم التعبير الأبقى، وهنا يجب أن نذكر أن النظرية الارتقائية التي قدمها تشارلز داروين في أواخر القرن التاسع عشر في العالم الغربي قائمة على فهم الطبيعة وقدرتها الإنتاجية والإبداعية، وهي أقوال تأسست عليها بعد ذلك علوم الأحياء الاجتماعي وعلوم النفس التطوري، والامتدادات الاجتماعية لعلم الجينوم، بالإضافة إلى دوافع هذه العلوم الكامنة في الاعتقاد بأن الظواهر المعقدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يمكن جعلها قابلة للاستيعاب بالإحالة إلى عملية قوة الطبيعة مفردة أو عملية أو بنية مفردة، وهنا تظهر لنا تلك العلاقة بين المعتقد والطبيعة من حيث نشأته التي تأسست على هيمنة قوة الطبيعة على الفكر الإنساني، وطقوس تلك الهيمنة ودلالاتها في تمظهرات المعتقد التي تفسر العلاقة الثنائية بين الإنسان والطبيعة، وهي علاقة ذات أبعاد مختلفة ومتعددة من حيث السلوك والميول والتصديق.
ولأننا نعرض هنا العلاقة بين الحقيقة والاعتقاد بالشيء المبنية على الفهم الإنساني الذي ينعكس على علاقته بالطبيعة بشكل مباشر فإننا نقول صراحة أن وراء هذه العلاقة فلسفة علمية عميقة ليست على المستوى النصي وحسب بل على المستوى الحضاري؛ ذلك لأنها علاقة إنسانية جوهرية تحتاج إلى مزيد من التأمل والتحليل والتأويل، فحسبنا أن نشير هنا إلى كونها علاقة عالمية على المستوى الإنساني، وحسبنا أن نلفت الباحثين إلى أهميتها اجتماعياً وثقافيا.