طبخة تفاوضية جديدة

ماجد كيالي –

majedkayali@gmail.com


هكذا، لا بديل عن المفاوضات إلا مزيد من المفاوضات، إلى ما شاء الله، هذا هو لسان حال جميع المعنيين، من الولايات المتحدة إلى إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية، حسب ما تؤكده مختلف المعطيات الصادرة عن مختلف الأطراف.

الجديد الآن، أن ثمة مقترحات عديدة لبثّ الروح في مسارات عملية التسوية، بطريقة أو بأخرى، دون صلة بتهديدات السلطة الفلسطينية، المتعلقة بحمل الأمر إلى مجلس الأمن الدولي، أو إلى الهيئات الدولية. ومعلوم أن هذه الخطوة المتأخرة، على أهميتها وضرورتها، لن تغير شيئاً في المعادلات القائمة على الأرض، التي تحكم العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.


ويمكن تفسير ذلك بعاملين، أولهما، أن إسرائيل، منذ قيامها، رفضت جملة وتفصيلا كل قرارات المجتمع الدولي بشأن حقوق الفلسطينيين، متغطّية في ذلك بدعم الولايات المتحدة ومساندتها، فضلا عن تمتعها بتفوق القوة والسيطرة على الفلسطينيين، سيما أن تخلخل الواقع العربي، في هذه الأيام، يمنحها فائضَ قوةٍ أخرى إزاء الفلسطينيين. وثانيهما، أن القيادة الفلسطينية لم تفعل شيئاً لإعداد بناها وتأهيل مؤسساتها لمعادلات كفاحية جديدة، حتى على مستوى المقاومة السلمية أو الشعبية، وأن الوضع الفلسطيني، مع الانقسام وترهّل الفصائل وتهميش المنظمة لايبشر بإمكان حمل أي مشروع وطني في مواجهة إسرائيل، مهما كان حجمه أو مستواه. وعليه، فإن هذه الأوضاع هي التي تفسح المجال لاستمرار الواقع الراهن، أي واقع السلطة، والمفاوضات، في ظل التحكم الإسرائيلي، والأمريكي، بهذه العملية.

الآن، ثمة حديث عن مبادرة أمريكية جديدة، دون أن ننسى مآلات سابقاتها، من مقترحات كلينتون إلى «خريطة الطريق»، ومسار انا بوليس، في عهد بوش (الابن)، إلى خطة المفاوضات في تسعة أشهر، في عهد الرئيس أوباما، مع عشرات الزيارات والاجتماعات التي عقدها وزراء خارجية الولايات المتحدة مع الطرفين، في عهد الرؤساء الثلاثة، من مادلين أولبرايت وصولا إلى جون كيري، مرورا بهيلاري كلينتون.

يستنتج من ذلك بداهة أن لا شيء جديد يمكن أن يبشّر بحلحلة ما للوضع الجامد بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، مع الحديث عن مبادرة أمريكية أخرى، بسبب تعنّت حكومة نتانياهو، ومع عدم حسم إدارة أوباما لأمرها في الضغط على إسرائيل، رغم كل التحولات في الرأي العام العالمي، والتي توجت مؤخّراً بإقرار مجلس النواب البريطاني لحق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم، في خطوة غير مسبوقة لهذه الدولة صاحبة وعد بلفور، وهو تحول يشمل، أيضاً، الرأي العام الأمريكي، على مستوى مجتمع الطلبة والجامعات والنخب الثقافية وحتى النخب اليهودية الأمريكية ذاتها.

وبحسب التسريبات فإن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يعمل على بلورة مبادرة سياسية جديدة قوامها استئناف المفاوضات على حدود الدولة الفلسطينية على أساس خطوط 1967 مع تبادلٍ للأراضي، بهدف قطع الطريق على توجّه الفلسطينيين لطرح القضية على مجلس الأمن، علما أن هذه فكرة قديمة، ولا جديد فيها البتّة، كما ذكرنا.

فقط ربما الجديد في هذا الأمر أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو تلقف المسعى الأمريكي لإدخال تعديلات عليه، تتمثل بإمكان دمج الدول العربية في عملية استئناف المفاوضات، بعد تعديل «مبادرة السلام العربية» (2002)، التي كانت رفضتها الحكومات الإسرائيلية منذ 12 عاما!

أيضاً، ثمة تسريبات تتحدث عن جوانب أخرى للخطة الأمريكية المقبلة، التي يمكن أن تطرح في غضون الانتخابات الأمريكية القادمة للكونجرس، تتعلق بإمكان قيام نوع من فيدرالية اقتصادية بين الأردن والسلطة وإسرائيل.

ويبدو أن هذه الفكرة تراود، أيضاً، بعض الأوساط الإسرائيلية، المؤيدة لعملية التسوية، ولحل الدولتين. وبحسب أوري سافير، مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية الأسبق، وأحد عرّابي اتفاق أوسلو، فإن «الأمريكيين يعتقدون أن تدشين مثل هذه الفيدرالية يساعد على بلورة حل دائم للصراع، علاوة على أنه سيضمن تحقيق استقرار اقتصادي يعزز فرص احترام أي اتفاق دائم.» وأن «ما يشجع على تقديم الفكرة هو التحولات الجيوسياسية في المنطقة، والتي ستسمح بأن تحظى مثل هذه الخطوة بدعم المحور السني المعتدل في العالم العربي.» ويرى سافير أن هذه فكرة تشبه «الفيدرالية الاقتصادية القائمة بين كل من بلجيكا وهولندا ولوكسمبورج والتي يطلق عليها «بنلوكس»، والتي كان الرئيس الراحل ياسر عرفات سبق أن اقترح مثلها.» وأوضح سافير أن تدشين الفيدرالية الاقتصادية يعني ضمان إقامة منطقة تجارة حرة وتعاون في مجال الطاقة وتحلية المياه، ومشاريع سياحية مشتركة سيما في منطقة البحر الميت، وتدشين خطوط مواصلات بين الأردن حتى ميناء حيفا، وترتيبات أمنية ثنائية ومخططات مشتركة لمواجهة «الإرهاب». وبرأي سافير فإن «الأمريكيين يرون أنه سيكون على الأردنيين المساعدة في إيجاد حلول لقضيتي اللاجئين والقدس، وهما القضيتان اللتان تعتبران من أهم قضايا الحل الدائم. وأن قيادات السلطة تبدي حماساً لهذه الفكرة على اعتبار أن وجود روابط بين الكيان الفلسطيني بالأردن سيقلص من حدة معارضة الإسرائيليين لفكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، علاوة على أن التعاون الأمني على جانبي الحدود سيقلص من رغبة الإسرائيليين في الاحتفاظ بمنطقة غور الأردن». وأن ثمة أهمية لـ «دور مصر في منح قيادة السلطة الفلسطينية مظلة سياسية عربية، لتمكينها من السير في هذا المسار، عبر الحصول على تفويض من الجامعة العربية، بالإضافة إلى دور مهم للسعودية التي ستدعم الفيدرالية مالياً، على اعتبار أنها معنية بنجاح «المحور البرجماتي، في العالم العربي.» طبعاً، ثمة أحاديث أخرى عن إمكان إرسال قوات دولية للحفاظ على الوضع القائم في غزة، وأحيانا تشمل هذه المقترحات إمكان جلب قوات دولية في الضفة، أيضاً، للفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

باختصار ففي غضون العقود الماضية ثمة مئات من مشاريع التسوية، التي أصدرتها وزارات الخارجية في الدول المعنية من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدول الأوروبية وروسيا وكندا واليابان، وكذلك إسرائيل أيضا ثمة عشرات آلاف الصفحات التي كتبت عن ذات الموضوع في مراكز الأبحاث الغربية والإسرائيلية والفلسطينية. بيد أن القصة كما ذكرنا لا تكمن في عدم وجود مقترحات أو تصورات، وإنما في تعنت إسرائيل، ورفضها التنازل للفلسطينيين، لأنها تعتقد أن ذلك يقوض روايتها لحقها في ما تعتقده «أرض الميعاد»، وما تراه «شعب الله المختار»، ورؤيتها لذاتها كدولة يهودية. المعنى أن إسرائيل تتصرف باعتبارها بمثابة استجابة لإرادة إلهية، أي كدولة فوق التاريخ، وفوق القانون الدولي، لذا طالما هي كذلك فمن الصعب الحديث عن تسوية، برغم كثرة المشاريع المتعلقة بها.