بيت يتجول ..تلك الأرض الفائرة بالموسيقى

يوسف عبد العزيز -


( 1 )

في الليالي الحالكة، غالباً في الليالي الحالكة، يحدث أن أتخيّلهم وأراهُم ثُلّة من الحَيارى والمهووسين بِحُبّ الحياة، يقطعون الشّعاب والوديان ويمشون إلى أرضهم الخاصّة. على أكتافهم معاولهم، وبين أيديهم فوانيسهم الصّغيرة التي تُبَقّع العتمة بتلك المساحات الضّئيلة من الضّوء، وتفضح ملامحهم: ها هم بقاماتهم النّحيلة يترنّحون من التّعب، ويتمايلون كأنّهم هياكل أشجار، ولكنّهم يواصلون سَفرهم غير آبهين بطول الطّريق.

في آخر المطاف يصلون. إنّهم يضعون فوانيسهم جانباً ثمّ يُنزِلون معاولهم عن أكتافهم، يُمسكونها بقوّة بين أيديهم ويبدأون العمل. إنّهم يحفرون ويحفرون تلك الأرض الملبّدة بالأحلام والفائرة بالموسيقى.

ها هم الآن قد شارفوا على نهاية العمل، لقد حفروا وحفروا لعدّة أيّام دون أن يغمض لهم جفن. ها هي الحفرة الكبيرة تحت أبصارهم، وها هي وجوههم تُشرق بتلك الابتسامة الماكرة.


( 2 )

ما الذي يلتمع تحت قشرة الكتابة؟ ما الذي يُغري ويُنادي ويُحفّز حتى تدبّ على سطح الكوكب – هذه الورقة البيضاء العظيمة – آلاف الأصابع المدرّبة لترسم مصائرها ومصائر الآخرين؟ هل الكتابة مهمّة للإنسان إلى هذا الحدّ؟ هل تشكّل بالنّسبة إليه حلاً حقيقيّاً لمعضلة الوجود على الأرض؟ ثم هل تنتهي ظاهرة الكتابة بانتهاء مشاكل الإنسان؟

يُخيّل إليَّ ونحن نَلِجُ الألفيّة الثّالثة أنّ التّاريخ يلعب، إنَّه أشبه بثور هائج يندفع في بريّة مفتوحة، ويطحن تحت أقدامه الأزهار والقلوب الصغيرة، ويفتك بالأحلام، ما من مشروع خلاّق ابتكرته الإنسانية إلاّ وتحطّم في منتصف الطّريق. ما من أمّة حاولتْ يوماً أن تلقي عن كاهلها الكابوس إلا واجتاحتها الهزائم. ثمّة فئة قليلة جسورة ومتمرّدة وقفت في وجه التّاريخ الثور وروضته بعض الوقت، ولكنَّها في النهاية ابتعدتْ عن طريقه حين صَعَّدَ خُواره ودَبَكَ على الأرض دبكته المجنونة.

هل البشريّة تتطوّر؟ وهل ما أنجزته من اختراعات ورؤى حتّى الآن يصبّ في مصلحة الإنسان؟ لا شيء من هذا يحدث، فقد استمرّت الحروب والمجاعات واستمرّ الذّلّ والعجز حتى ليمكننا القول إنّ ما يحدث من خراب في كل مرحلة، يفيض عن طاقة البشريّة، ويكمن لها في المستقبل، لتتجرعه في مرحلة تالية.

وحده الفنّ ما بقي من كل ذلك اللعب سليماً ومعافى. وحده الشّعر والموسيقى واللوحة، ما ظل في خزائن الوقت كأثر حقيقي للإنسان. هكذا ومنذ بدء الوجود انطلق الفنّ ليرسم حركته الخاصة التي لا تشبه من قريب أو بعيد حركة التاريخ الأرعن. وتقدّم ليبثّ ناره في عضلة الحياة. وليزود الإنسان بكل ذلك الألق والرغبة في عناق المسافات والطّيران.

في كهوفهم الصّغيرة، أعني في غرفهم الضّيّقة وفي مدنهم التي تشبه الحظائر الكبيرة، أقاموا بكامل شقائهم وبكامل فتنتهم وجنونهم، وأخذوا على عاتقهم إنجاز المهمّة الصّعبة: أن تكون الحياة ممكنة. لقد وضعوا مصائرهم الشّخصيّة جانباً واعتنقوا فكرة الحُبّ. وإذا ما تأمّلنا حيوات هؤلاء الشعراء والفنانين لوجدنا أنها حيوات قائمة في العزلة، إنّهم في الواقع لم ينعموا بكل تلك المسرَّات التي ينعم بها غيرهم. مسرّتهم الوحيدة تتلخّص في تحقيق السّعادة للآخرين. “ مهنة الكتابة دعوة للتّعاسة “ هكذا هتف الرّوائي الفرنسي ( جورج سيمنون ) ذات مرّة حين وجد نفسه منهمكاً في الكتابة. كان سيمنون يسجن نفسه في غرفته حين يبدأ بتأليف رواية جديدة وينقطع عن الناس أحد عشر يوماً متواصلة. كان يشقى، وجمهوره يتلذّذ ويتساءل: كيف يمكن له أن يكتب كلّ هذا العدد الهائل من الرّوايات؟

هل يسعى هؤلاء الشّعراء والكُتَّاب من وراء إبداعهم إلى تغيير الواقع كما كان يُشاع؟ هل ينوي هؤلاء فعلاً إصلاح العالم، وإقامة العدل على وجه الأرض؟ إنّ مثل هذه الأهداف لا علاقة لها البتّة بالفنّ والكتابة. ولأقُل بمزيد من الجرأة إنّ تحقيق هذه الأهداف هو أمر في غاية الصّعوبة ليس بالنّسبة للمبدع ولكنْ بالنّسبة للإنسان في الدّرجة الأولى، إنّ كلّ الفنّ لا يمكنه في النهاية أن يزيح حصاة في الواقع عن مكانها. إن مهمته تكمن في مناطق أخرى ومجالات مختلفة تماماً.


( 3 )


في الليالي الحالكة، غالباً في الليالي الحالكة، أُغمض عينيّ فأراهم. أرى وجوههم المعذّبة، وراحاتهم التي تشقّقت من قسوة العمل. إنّهم يقفون الآن على تلك الأرض الخفيفة أرض أحلامهم وقد أنجزوا عملهم. هم لا يعرفون كم مرَّ عليهم من الأيام والليالي، لم يعرفوا أيضاً في أيّ الأزمان هم وما الذي أتى بهم إلى هذه الأرض المُخاتلة، التي كلّما أعمَلوا فيها معاولهم وحفروها كلّما نادتهم أعماقها وضجّت بالرّؤى والنّداءات. مثل جسد يتنفّس كانت تلك الأرض تتموّج تحت أبصارهم، وهم كانوا يحفرون ليهبطوا في رحمها وتهدأ أرواحهم القلقة.

حين اكتمَلَتْ سعادتهم بانتهاء العمل، ألقوا معاولهم جانباً. وحين جلسوا على الأرض كي يستريحوا دوَّت أعماقهم بالضّحك… يا إلهي ضحك صافٍ وحرٌّ كان يتصبّب من أفواههم، ضحك غزير انفجروا به بغتة حين خطر ببالهم أن يسألوا عمّا يمكن أن يفعلوه بعد ذلك. وكما لو كانوا في حلم راحوا يضحكون فيما ضحكهم الهستيريّ يملأ الرحم الذي حفروه.

الآن وقد عاد كلّ شيء إلى حاله في تلك الأرض الغريبة التي لم تكن في واقع الأمر سوى أرض للضّحك، راقت لهم الفكرة: لقد استعادوا جأشهم وتناولوا معاولهم واستعدّوا ليحفروا من جديد.


Yousef_7aifa@yahoo.com