لنوفر متطلبات الحد الأدنى من التضامن!!

د. عبدالحميد الموافي -

في الوقت الذي تحرص فيه الكثير من الدول، والمجموعات الدولية، الاقليمية والمتعددة الاطراف على اقامة وتعزيز وتقوية صيغ العمل المشترك فيما بينها، وتوسيع ذلك ليشمل مناطق قارية، او حتى بين قارات – آسيا والباسفيك، والاتحاد الاوروبي وامريكا اللاتينية، والاتحاد الاوروبي والآسيان –.

فاننا على الصعيد العربي، ورغم توفر كل المقومات اللازمة للعمل المشترك، نجد انفسنا نغرق بشكل متزايد في خلافاتنا، وفي مكايداتنا المتبادلة، ونتبارى احيانا في صنع وحياكة المكائد، الصغيرة والكبيرة لبعضنا البعض، حتى ولو كان ذلك باجهاد النفس والتنقيب لوقت طويل في تسريبات ويكيليكس، او مزاعم الاجهزة الغربية لتكون ادوات اخرى نقطع بها ما بقى من وشائج وصلات، او لنزيد من التباعد بين قياداتنا وشعوبنا، غير مدركين ان قاربنا العربي واحد في النهاية، وانه من المهم والضروري ان نحافظ جميعنا عليه، والا ندع فائض القوة، او فائض الثروة – وهو فائض موهوم في الواقع بحسابات معينة – يزيد من تفتيتنا، وينسف فرص وصيغ عملنا العربي المشترك، خاصة وانه من المؤكد ان ايا من الدول العربية، او غيرها ليست محصنة بشكل كامل او تام ضد امكانية الرد عليها بوسائل من جنس عملها.

وفي ظل طبيعة ومخاطر ما تمر به، وتتعرض له العديد من الدول العربية، وبالطبع المنطقة ككل، بفعل ما عرف بالربيع العربي، والذي سلمها او دفع بها الى حافة الفوضى، التي لا يمكن الا ان تكون مخططة، لأن انفجار اعمال العنف على هذا المستوى الواسع خلال مدة وجيزة، ليس مصادفة ولا يمكن الا ان يكون مخططا وتم الاعداد المسبق له، بشكل او بآخر، فان العمل العربي المشترك والفعال، هو دوما طوق النجاة، الذي يمكن الاستعانة به، للخروج من هذه الحالة ومواجهة تحدياتها الكبيرة والمتزايدة ايضا. وفي هذا الاطار فانه من الاهمية بمكان الاشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب لعل من اهمها ما يلي :


** اولا: انه في ظل المخاطر – المباشرة وغير المباشرة، المشار اليها، والتي لا تهدد الحاضر العربي فقط، ولكنها تمتد الى المستقبل، وفي ظل اتساع نطاق تلك التهديدات، لتشمل العدد الاكبر من الدول العربية من ناحية، وفي ظل تنمر مختلف القوى الاقليمية، اسرائيل واثيوبيا وغيرهما، وهي معروفة واصبحت تجاهر بمواقفها وممارساتها على الارض، فان هذا الوقت هو الوقت الذي يتحتم فيه على الدول العربية ان تتجمع مرة اخرى في الاطار العربي، وان تسعى فيه، بجد واخلاص، من اجل اعادة الفعالية الى هياكله ومؤسساته وصيغه المعروفة، بما في ذلك على المستويات الثنائية ومتعددة الاطراف والجماعية ايضا، لان كلا منها يصب في الاخرى في النهاية.

ولعل ما يجعل من هذا الوقت هو الوقت الملائم للعودة الى صيغ وضوابط العمل العربي المشترك، ان الدول العربية جربت على مدى العقود الماضية الكثير من الشعارات والممارسات التي اعتمدتها هذه الدولة العربية او تلك في ادارة علاقاتها ومحاولة جر الجامعة العربية او صيغ العمل المشترك الاخرى، لتسير في هذا الدرب او ذاك، ومن وحدة الهدف، الى وحدة الصف، الى الحد الادنى من الاتفاق، الى مجرد التضامن والمراعاة، حتى وصلنا الى استخدام ما يتصوره البعض فائض قوة، او فائض ثروة، بالمفهوم العربي بالطبع، ضد بعضنا البعض وبشكل غير مسبوق احيانا. وقد ادت كل تلك الشعارات والمحاولات والممارسات الى ما نحن فيه الآن، والى حد يتصور فيه البعض ان ما ينطبق على مجلس التعاون لدول الخليج العربية مثلا، لا ينسحب على جامعة الدول العربية، او انه يمكن العمل بمعايير متعارضة فيهما. وأكد اعلان الكويت الصادر في ختام قمة الكويت العربية الخامسة والعشرين في 26 مارس الماضي على ان «العلاقات العربية – العربية قائمة في جوهرها على قاعدة التضامن العربي متعهدين – القادة العرب – بالعمل بعزم لوضع حد نهائي للانقسام العربي عبر الحوار المثمر والبناء وانهاء كافة مظاهر الخلاف عبر المصارحة والشفافية في القول والفعل والحرص الكامل على تعزيز الامن القومي العربي بما يضمن سلامة الدول العربية ووحدتها الوطنية والترابية وعلى تمتين قدرة الدول العربية على مواجهة الصعوبات الداخلية التي تمر بها والتحديات الخارجية المهددة لسلامتها بما يمكن من تسارع عملية النمو وتحقيق التنمية الشاملة.» وهذه الفقرة، على قصرها، تتضمن في الواقع الكثير مما نحتاج اليه الآن لنعزز ونزيد فاعلية عملنا العربي المشترك، على كل المستويات وعبر جامعة الدول العربية وغيرها ايضا.

** ثانيا: انه اذا كانت العقود الماضية قد اثبتت اهمية وفائدة العمل المشترك، خليجيا وعربيا وعلى المستويات الثنائية الفعالة ايضا، وان هناك مصالح نشأت وتتسع، وتستفيد منها وبشكل متبادل مختلف دول وشعوب المنطقة، فانه من الطبيعي ان تفرض التحديات والتهديدات الراهنة، التمسك بهذه الصيغ القائمة، والتعامل بالوسائل التي اشار اليها اعلان الكويت للتغلب على الخلافات في وجهات النظر، وفي الاولويات، للحفاظ على استمرارية هذه الصيغ بكل اعضائها. ولان الامر لا يمكن ان يكون من قبيل «تجديد طراز السيارة» لان العمل العربي المشترك، بكل مستوياته هو في الواقع استجابة لحاجات الشعوب العربية، ولمصالحها المشتركة والمتبادلة، وبما يخدمها جميعها بشكل متوازن ايضا. فان الامر بالنسبة لجامعة الدول العربية لا ينحصر ابدا في تعديل ميثاق الجامعة الذي وضع عام 1945.

فالاهم من تعديل الميثاق، ومن زيادة هيئات اخرى الى قائمة هيئات الجامعة، وهى قائمة طويلة وقليلة الفعالية، ان نلتقي على مبادئ محددة، نضعها في مقدمة اولوياتنا ونلتزم بها بشكل جاد وتام وحقيقي وعملي ايضا، سواء في علاقاتنا الثنائية او في عمل مؤسسات العمل العربي المشترك. والغريب ان هذه المبادئ موجودة وتم اقرارها في مواثيق جامعة الدول العربية منذ عقود.

واذا كان الاتحاد الافريقي قد اخذ بمبدأ عدم تغيير الحدود التي استقلت عليها الدول الافريقية، واذا كان الاتحاد الاوروبي قد نجح في بناء مجتمع الامن الواحد، الذي ينتفي فيه تهديد اي عضو لعضو آخر بأي شكل، فاننا في جامعة الدول العربية، نحتاج بحق الى بناء مجتمع الامن العربي الواحد وذلك عبر الالتزام الحقيقي والعملي بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الشقيقة واحترام سيادتها وبناء وتعميق الثقة المتبادلة بين الاشقاء.

واذا كنا نمتلك الكثير من القرارات والتوصيات والصيغ القانونية التي تؤكد على ذلك، بما في ذلك مواثيق الجامعة العربية ومجلس التعاون وغيرها، فاننا نحتاج الى الالتزام العملي بذلك في ممارساتنا وسياساتنا حيال بعضنا البعض. واذا كان ذلك يحتاج بالضرورة الى ارادة توافق سياسي واسع، والى ايمان عميق بالمصالح المشتركة والمتبادلة بين الاشقاء، فان العمل على حل مشكلات الحدود على قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»، ومحاولة تعزيز المصالح في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفنية، خدمة لشعوبنا وتيسيرا لحياتها اليومية، وعزل ذلك، قدر الامكان عن التأثر بالخلافات السياسة وتقلبات المزاج العربي، تعد مسألة ضرورية. وكلما زادت قناعاتنا بذلك تيقنا ان مصالحنا الفردية تتحقق اكثر عبر الاطار الجماعي المشترك، سواء في اطار مجلس التعاون او جامعة الدول العربية، وانه كلما ساد التوافق فيما بيننا زادت قدرتنا على تحقيق مصالح شعوبنا، فان فعالية مؤسسات العمل العربي المشترك تتحقق بشكل اكبر.

ولكن هل المشكلة في جامعة الدول العربية هى مشكلة صنع قرارات مثلا، كما يتصور او يزعم البعض، الحقيقة والواقع ومواد الميثاق، والممارسة العربية تشير ايضا الى ان المشكلة ليست مشكلة عملية او اسلوب صنع القرارات في جامعة الدول العربية، وليست بالتأكيد مشكلة الاجماع الذي يطبق فقط – حسب الميثاق – في حالة العمل المسلح ضد اية دولة عربية تعتدي على دولة اخرى، وفي حالة الطرد من عضوية الجامعة، وفي كلتا الحالتين لا يحسب ضمن الاجماع صوت الدولة التي يتخذ القرار في حقها. ثم جاءت معاهدة الدفاع العربي المشترك عام 1950 لتسمح بإمكان العمل المسلح من جانب الدول العربية ضد الدولة العربية المعتدية على اي من الدول الاعضاء بقرار يصدر بأغلبية ثلثي الدول العربية، وقد تم الاخذ بهذه القاعدة عند التصدي للغزو العراقي للكويت. وبذلك فان الاجماع ينحصر في قرار الطرد من الجامعة. والسبب وراء ذلك هو الحفاظ على الدول العربية اعضاء في الجامعة وعدم تسهيل طرد اي من الدول الاعضاء حفاظا على الرابطة العربية.

اذن المشكلة تكمن في الالتزام بما يتم الاتفاق عليه من قرارات وسياسات في اطار مؤسسات العمل العربي المشترك. ومع ادراك مختلف العوامل والاسباب التي تقف وراء الضعف العربي في هذا الشأن، الا انه من المأمول ان تنضج السياسات العربية بشكل اكبر، وان نتخلص في ممارساتنا السياسية من تصورات عديدة خاطئة بشكل او بآخر، خاصة فيما يتصل بالذات والدور الممكن او الموهوم، والمصلحة الفردية والجماعية، ومدى الاعتماد على الآخر، بل ومفاهيم ميكافيلي التي اوردها في كتابه « الامير».

فلم تعد السياسة تدار بتلك الاساليب، واصبحت اقصر الطرق لتحقيق المصالح هي ان تكون مشتركة ومتبادلة ومفيدة لكل الاطراف. ولعل السؤال هو الى اي مدى نؤمن بحق بفائدة وجدوى مجلس التعاون وجامعة الدول العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك؟. واكاد اجزم ان مدى الالتزام يتناسب طرديا مع مساحة الايمان بقيمتها وجدواها.