نوافذ الروح المعتمة والمضيئة في آن.. قراءة في تجربة الفنانة التشكيلية طاهرة فداء

طاهرة فداء حسين فنانة تشكيلية عمانية أقامت معرضها الشخصي الأول بعنوان (هندسة الروح) بمتحف بيت الزبير في الفترة ما بين ١٧ فبراير إلى ١٥ مارس الماضي.

خروج من نمطية التشكيل، يعطي الأهمية الخاصة لمواصلة العيش كمبدع. اذ نحن أمام تجربة تقترب من العشرين عاماً، تجربة من العمل الجاد والصامت، يكاد يولد لدى الآخر مشاعر يأس واحباط، الا أنها هنا تميزاً ومصدر غذاء بالأمل ومصدر إنارة لروح الابداع، أملاً في ان يترك العابر أثرا ما، في هذا الكون المتلاطمة أمواجه كبحر عاصف.

تقديم ما هو غامضٌ كأليف لنا في الحياة، و ما هو بعيد كقريب، او في حالات أخرى ما هو قريب كبعيد، مرده ايمان الفنانة بالحياة كرحيل غامض إلى المجهول، أو الحياة كرحلة لا ندرك إلى أين تذهب بنا، وما علينا كمتلقين لتجربتها غير قبول هذه الحقيقة الغامضة والمرّة في آن،حتى الكائنات المقدمة في التجربة قادمة من الماضي، مثلما هو في لوحة “بزوغ من الماضي”، أو عندما تكون دون زمن محدد و بملامح انسانية عامة،تنضح بصمت مدهش كما تفصح عن ذلك لوحة “الرحيل”.

دون شك ثمة جذر شخصي في تجربة الرحيل كفراق دائم، و ما اعتقده دوماً هو عدم إمكانية الإفلات مما هو ذاتي في الفن، ثراء تجربة الفنان في الحياة مصدر خصوبة متواصلة لإبداعها الفني. أقرب اللوحات التي تقدم هذا الجذر في التجربة هي لوحة” قصتي معك”. تعتمد هذه اللوحة وهي الأكثر ثراءً في المجموعة على ثلاثة أشكال بشرية، تختلف في درجات ضيائها، رغم ما يفصح به ضياء الشكل الأكثر بروزاً، إلا انه غموض و خفوت الأشكال الأخرى، هو ما يعطي التجربة فتنة وجمالاً غريباً لا يضاهيه إلا جمال العتمة الذي تخفيه شخوصها و مفرداتها. تقدم اللوحة محاولة ًخلّاقة ًلسبر غور علاقة روحية، ذهبت بنا إلى امكانية تأويلها المتعدد و تقديم قراءات مختلفة لها، ذهبت إلى الداكن الغامض واللامرئي، وذلك ما يجعل اقتراب كائنات طاهرة فداء منا وابتعادها في آن، ألفتها و حميميتها و اغترابها معاً.

ما تقدمه التجربة بشكل عام إمحاء الاشكال البشرية في الغياب، تبدو عبر قاماتها الفارعة وكأنها أطياف سحرية، فما يحضر إذن هو ليس الكائن البشري بل أثره، ايحاءات حُزنه و غيابه و ماضيه، الماضي الذي يبزغ محدداً حضور الانسان ومستقبله، و ماهو جدير بقراءته خاصهً في العلاقة مع الآخر، علاقه فراق دائم جسدتها النوافذ المغلقة والحارات المهجورة.

النوافذ لا تُغلق على الجسد البشري فحسب، تُغلق أيضاً على عواطفه ومشاعره و غرائزه، لا يعني ذلك مطلقاً ابتعاد الفنانة عن تناول مشاعر الإنسان بفيضها الخلاق، قدر ما انها تضعه في المركز تماماً، حتى مع غياب ملامحه، اذ الجمال البشري هنا، خاصةً جمال المرأة يحضرُ مكثفاً، رغم كونه بعيداً عن الملمس والبروز.

ينسحب ذلك أيضا على تجسيد الملائكة، مستقى من الخيال الطفولي الاسلامي عنه في المسيحي، الذي قدم لنا ثراء تجربة فنون عصر النهضة في اوروبا، العودة بنا إلى الجذر الاسلامي الذي يقترب لديها في تشكيل الذاكرة من الإنسان، التركيز يتم على الطابع النوراني والملائكي. فهي أطياف لا تتجسد على الإطلاق لكنها تهيل نورها في الفضاء الرحب، أو على الاجساد البشرية، إمعانا في العلاقة الاسطورية بين الملاك والإنسان.

النوافذ مطفأة مغلقة تخفي خلفها حياةً غامضة، تذكر بشباك وفيقة المطفأ والمغلق على موت في شعر بدر شاكر السياب. انطفاء الحياة هذا بمعنى غياب الإنسان ليس في ملامحه فحسب، بل حتى في أي أثر له، نجدها خاصة في لوحة “قرية قديمة”، اذ تصطف الحجارة الصغيرة في مربعات حجرية مغلقة على عالم من الماضي البعيد المغلق والمندثر في آن.

ربما تكون الرمال بفضاءاتها الرحبة هي ما تمنع الفنانة من تقديم أمل ما في الحياة. في لوحة “رمال الوهيبة” أو في لوحة كبرى لها تحمل عنوان “المحيط الأخضر”، اذ مع أن هذه الأعمال تشترك وأعمال مرحلة من تطور رؤى الفنانة معتمدة على غياب كامل للإنسان، وسيادة الطبيعة عارية بريئة بعيدة من أي أثر بشري، الا انها في آن آخر اعمال ُتمجد جمال حياة مضت أو حياة قادمة ايضاً، لاعتمادها هنا على عناصر الحياة الخالدة كالماء في المحيط الاخضر والرمال في صحراء آل وهيبة.

من الصمت والخشوع الذي تمتلئ به تجربة طاهرة فداء، يتسلل النور المشع من ضياء داخلي عميق عمق الروح الصافية، الفنانة تنظر إلى المدن والقرى عن بعد تارةً وعن قرب تارة آخرى، ذلك ما نراه في لوحة “مطرح” التي تبدو بعيدة غامضة، تنعكس منازلها على صفحة ماء هادئ ساكن، ولا يبدو من منازلها غير نوافذ وشرفات مغلقة، لكنها في الوقت ذاته تقترب بك من عمق روحها الدفين، صمت مساكنها وهدوء أزقتها، وخلف الأسوار تهدأ في غموض أرواح سكانها. تجربة تبتعد عن صخب الإنسان وصرامة تجواله، التركيز عوضاً عن ذلك يذهب إلى رحيله و حزن وصفاء غيابه، يذكر بالمآتم الدينية الباكية التي تسدل حزنها التاريخي العميق على مجمل كائنات طاهرة ونوافذها.

وما تقدمه الفنانة خارج ما نعرفه بالمجتمعات المغلقة، كان ذلك في المدن والقرى، يظلُ بعيداً عن متناول اليد البشرية، عالم بدائي ينضح بحياة بعيدة مثلما هو في لوحة “المحيط الأخضر”، أو اسطورياً ينم عن حزن إلى عالم طفولي بعيد عرف الحرمان والعزلة والأسى، تقدمه الفنانة في أشكال أسطورية صامتة كما في لوحات “طيور الحب وليالي ممطرة”.

التجربة هنا تذهب مع الإبداع الشعري العربي تاريخياً، في اعتبار النافذة أي الشباك في مفردة عربية أخرى، إرثاً من الحبس والانغلاق عن العالم بخلاف منافذ أخرى في الابداع الإنساني مثل الشرفة، والتي قدمتها تجارب ابداعية كبرى كشرفة روميو وجولييت لدى شكسبير، أو قصيدة الشرفة لدى الشاعر غارسيا لوركا.

قدم التراث الابداعي العربي الباب كثيمة مشحونة بدلالات ثرية متنوعة، خاصةً في التراث الصوفي وذلك لاستكناه العالم الباطني خاصة لدى محمد بن عبد الجبار النفري في كتابه “المواقف والمخاطبات”.

هكذا تبدو نوافذ طاهرة فداء متسقة وهذا التراث، النافذة بها تطل على عوالم صوفية من الباطن، لكنها لا تفضي إلى الخارج أبداً. بل وفي كثير من المنازل التقليدية العمانية، النافذة أقرب إلى المرق الذي يسمح فقط لإنارة بسيطة وممر لدخول الهواء. كان ذلك دون شك لجذور من الخوف للتواصل مع الآخر. جذور من عزلة الذات و ظلمتها، جذور من قمع الرغبة في التنافذ، اي التواصل مع العالم الخارجي.

هي ايضاً قدمت المأساة العراقية بصمت جلي، أفصحت فيه الفنانة عن عذاب مر، كانت صرخات احتجاجه معتمدة على المرأة والطفولة خلفهما جدران من الدم والتي اصبحت خاوية من الجنس الآدمي. اعتمدت فيها على قساوة اللونين الأسود والأحمر، مضيفين على تجربتها أثر قساوة مرة للحرب والدمار.

مع انها في بعض اللوحات كانت لها شروحات لغوية مرافقة مثل لوحة “قصص جدتي، والعباءة، وشرقيات” والتي اضرت بالتجربة، الا ان الفنانة تجاوزت هذه المرحلة لاحقاً. و كلما ذهبنا عميقاً في التجربة، احتفظنا بغموضها واقتربنا من روحها السمحة، وكنا أوفياء لجمال النص وتشكيله. ذلك ما يحافظ لنا على اللوحات الغموض العذب ذاته ويكون لدينا الرغبة للغوض والتبحر في التفاصيل، وخصوصاً عندما تبتعد عن الزخرف الخارجي و عن الشرح اللغوي المرافق لها.