خبز رخال

حمدة بنت سعيد الشامسية -

hamdahus@yahoo.com
قبل سنوات كانت تعمل لدينا عاملة منزل نشطة للغاية ولا تعترف بكلمة (صعب) و(لا أستطيع)، كانت ترغب بتعلم كل ما يمكن تعلمه من مهام منزلية، سواء كان هذا يقع ضمن اختصاصها أم لا، وكانت شغوفة بشكل خاص بتعلم طريقة عمل خبز (الرخال)، الذي كانت تستهويها مهارة النساء في المنزل وهن يكورن العجينة الملساء بمهارة فائقة، وكانت عيناها تلمعان بهجة وهي ترى الأيدي الرشيقة تلف (الطوبج) بسرعة ومهارة فائقتين، وتستمتع بصوت العجينة وهي تحدث صوت فرقعة كلما لامست الحديدة الساخنة، وتشرع في التوسل بأن يسمح لها بأن تجرب، لكن لم تكن النساء على ثقة من أنها تستطيع تعلم هذه المهارة بالذات، لصعوبتها وخطورتها في الوقت ذاته عليها هي المتسرعة، لكن تلك العاملة الصغيرة، كانت تتميز باصرار لا مثيل له، فلم تتوقف يوما عن ترك أي عمل تقوم به في اللحظة التي تسمع فيها فرقعة العجينة على الطوبج الساخن، فتترك كل ما بيدها وتركض مسرعة، لتراقب العملية، بفضول طفولي مثير للدهشة، الا ان استسلمت لها النساء وسمحن لها بالتجربة، وكانت كمن بشرت بفوزها بمليون ريال، اتخذت موقعها أمام الطوبج بفخر، ورمقت المحيطات بها بنظرة تحد ظاهرة قبل أن تضع يدها في العجينة التي تفاجأت بلزوجتها الشديدة، فغاصت أصابعها فيها ولم تتمكن من أن تتخلص منها الا بصعوبة شديدة، وبعد أن تمكنت قبضتها من العجينة هوت بها على الطوبج، وبحركة غير محسوبة المخاطر بدأت تتدحرج العجينة على الحديدة الساخنة، لكن مهارتها خانتها فلم تستطع التحكم بالعجينة فأطلقت صرخة مدوية اثر احتراق أصابعها، تذكرت هذه العاملة الظريفة قبل أسابيع وأنا أستمع الى تساؤل احدى الفتيات التي شاركتني الطاولة، في الفعالية السنوية التي يقيمها المجلس الثقافي البريطاني للنساء المشاركات في برنامج تنمية المهارات القيادية للمرأة العربية، والمسمى (السبرينغبورد)، حيث دأب المجلس الثقافي على دعوة النساء اللائي سبق لهن المشاركة في البرنامج سنويا من أجل تعزيز التواصل بينهن وبين المجلس من جهة وبينهن وبين المجموعة من جهة أخرى، فضلا عن تزويدهن بجرعات تعليمية من منطلق استمرارية التعليم، نظرت الى الفتاة بشك وقالت: الا توافقينني الرأي بأن برامج التنمية البشرية والتحفيز هذه برامج غير مجدية على الاطلاق، فبعد دقائق من تركي لقاعة التدريب افقد شخصيا كل ذلك الحماس الذي أثاره المحاضر في نفسي؟! لم تكن هذه المرة الأولى التي أسمع فيها تعليقا كهذا عن فن تطوير الذات، فقد سمعته كثيرا من أناس كان لديهم اعتقاد مشابه، ممن توقعوا أن خبير التنمية البشرية يملك مصباح علاء الدين السحري، وبكلمة يطلقها يمكن أن يغير حياتهم بين يوم وليلة، ليس بالضرورة أن يكون لديهم الاستعداد للتغيير واتباع الارشادات التي قرأوها في الكتاب أو سمعوها في الحلقة التدريبية، بل يتوقعون أن يحدث التغيير بقدرة قادر، سبحانه “إنه على كل شيء قدير”، “إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون”، لكن الله جلت قدرته قال أيضا: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، فالتغيير يبدأ من الذات، حيث إن خبير التنمية البشرية سيرشدك للطريق الذي عليك أن تسلكه من أجل الوصول الى أهدافك، لكنه لا يستطيع أن يمشيه نيابة عنك، حتى وإن وصف لك ذلك الطريق، وحدده تحديدا واضحا، وحتى إن بدا لك ما تريده واضحا وضوح الشمس فلن تستطيع بلوغه وأنت تقف مكانك، هكذا هي الحياة، المعرفة وحدها لن تحقق لك ما تصبو اليه، هناك من يقول إن المعرفة قوة، لكن قوة المعرفة تكمن في تطبيقها وليس مجرد امتلاكها، فتلك العاملة البسيطة اعتقدت جازمة انها اتقنت اللعبة، من كثرة ما شاهدت عملية اعدادها، واعتقدت بأنها بمجرد تقليد ما رأته ستتمكن من انجاز المهمة، لكن التطبيق كان مختلفا تماما، هؤلاء المشككون في تقنيات تطوير الذات، يبدو لي أنهم كان لديهم القناعة ذاتها، لكن الفرق أن عاملة المنزل تلك لم تستسلم بعد حرق أصابعها بل أعادت الكرة مرة تلو المرة حتى أصبحت أمهر من يعد الرخال في المنزل، لكن هؤلاء في المقابل استسلموا من أول محاولة لم تسفر عن نتيجة، هناك تعريف جميل للجنون بأنه القيام بالعمل ذاته مرة تلو مرة بالطريقة ذاتها متوقعا نتائج مختلفة، فهم يرغبون في الاستمرار في طريقة تفكيرهم والتمسك بسلوكياتهم التي تبرمجوا عليها، وفي الوقت ذاته الوصول الى ما يعد به خبير التنمية البشرية، وهو مالا يمكن بأي حال من الأحوال، الخلل اذن ليس في علم التنمية البشرية- أو تطوير الذات سمه ما شئت- وانما الخلل فينا لأننا متمسكون بقناعات وسلوكيات نعلم علم اليقين أنها سبب في بقائنا حيث نحن، شخصيا أعتقد بأن فنون التنمية الشرية تقنيات رائعة ساهمت في تغيير ملايين البشر حول العالم الى لأفضل، واتاحت لهم تحقيق انجازات لم يحلموا بها، لكن سبب نجاح هؤلاء يكمن في رغبتهم الحقيقية في التغيير.